الصناعات الثقافية بين متطلبات الجودة واشكالية الادارة

مقال للدكتور حسين الانصاري - السويد

دكتور حسين الانصاري

تدوين نيوز – خاص

الانتاج والصناعات الثقافية

أخذ مصطلح الصناعات الثقافية بالتنامي والتوسع اثر الثورة الصناعية التي شهدتها اوربا ، خصوصا بعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي ، وهو ما قاد الى  تغيير جذري في بنى الثقافة وعلاقاتها بمنظومة الاقتصاد من جانب وبنية المجتمع بكل  مجالاته من الجانب الاخر.ومع هذا التطور التقني والمد الاتصالي الذي نعيشه اليوم دخل مفهوم الانتاج والصناعات الثقافية مجالات اخرى تجاوزت الحدود التقليدية  ودخل حقولا جديدة منها الحقل الاكاديمي الاوسع حيث  اصبح علما له من المناهج والخطط التدريسية العلمية التي تدرس في اعرق معاهد وجامعات العالم لاسيما في اوربا والغرب ، وقد اشتمل هذا المنهج على اختصاصات عديدة ترتبط بالمفهوم العام للمنتج الثقافي وادارته ، منها مايتعلق بكيفيات الانتاج الثقافي او ما يرتبط بأمكانات التكنلوجيا ودورها في المنتج الثقافي أو الوسائط الحديثة للتقنية واساليب توظيفها وانعكاساتها على الصناعات الثقافية وكيفية ايصالها وترويجها وتلقيها ، وفي كل هذا يكون العنصر البشري هو الاداة والوسيلة والهدف في حصيلة الخطاب الثقافي، هذه الموضوعات وغيرها قد فتحت الافاق واسعة امام الانتاج الثقافي وفي شتى مجالاته واشكاله المكتوبة والمسموعة والمرئية.

وما نعيشه اليوم من  اضافات نوعية في عالم التقنية الرقمية والاقمار الاصطناعية حيث الانتشار اللامتناهي  للاتصال والمعلوماتية قد غير المفهوم السائد للصناعات الثقافية التي كان ينظر لها من زاوية الاقتصاد والارتباط بالسوق وحاجات الفرد القائمة ، لكنه اليوم قد اضحى وبفعل معطيات التقنيات الحديثة وامكاناتها الوفيرة عاملا اساسيا وفاعلا ليس في كيان الفرد حسب بل في بنية المجتمعات وافاق التنمية بعد ان ارتبط الانتاج الثقافي بمجمل مجالات الحياة ونشاطات الانسان المختلفة

لقد تجاوز الانتاج الثقافي الحدود المحلية ليكون انتاجا عالميا كونيا مرتبطا  بواقع العصر وما طرأ عليه من انفتاح وكسر الحواجز والوصول الى ابعد نقطة في عالمنا المعاصر وهو ما حققته تأثيرات العولمة وانعكاساتها تلك التي نادى بها مارشال ماكلوهان واخرين قبل عقود ، لكن جذور استخدام مصطلح الانتاج الثقافي واداراته  مثل ، دراسات المؤسسات الثقافية والصناعات الثقافية والدراسات النقدية الثقافية الى جانب مصطلحات اخرى كالتشيؤ ، العقل الاداتي وغيرهما مما جاءت بهما مدرسة فرانكفورت التي كانت الرائدة في هذا الجانب وبفضل روادها امثال تيودور ادرنو وماكس دوركهايمر واخرين ،الذسن فتحوا الافاق امام اجتهادات لاحقة حرصت على تحليل البنى الثقافية ونظم انتاجها وادارتها فمثلا

إن رؤية مدرسة فرانكفورت تجاوزت المسعى الفكري الذي كان ينظر للثقافة بوصفها نشاطا فكريا وروحيا متعاليا ، او نتاجا لابداع ذاتي او ممارسة متخيلة ، لقد وجدوا في الثقافة دورا ابعد في تقصي الواقع ونقده ومجالا للتأثير والنفوذ والتداول .

( إن رؤية كهذه كانت موجهة ضد عالم بات يتخطى الثقافة كنتاج تأملي وتعبير انساني حي وحيوي الى انتاج يتم تمثيله ضمن حدود الفرجة المشهدية والاشهار وبأثر من منتجات العصر الحديث ومتطلبات السوق من دعاية واعلان وموضة وصور وميديا الى جانب اشاعة الانظمة الافتراضية ووسائطها المتعددة وهو ما يؤسس لحضور عنيد للاثارة وصناعة استجابة ألية للتلقي لتشكل بمجملها ما يسمى بايديولوجيا الحاجة الزائفة ) (1)

ان تطور العلاقة مابين الجانب الاقتصادي والاجتماعي انعكست بشكل مباشر على الانتاج الثقافي الذي صار عبارة عن سلع متنوعة المستويات والاشكال فهناك معارض الكتب ، ، البرامج الاذاعية والتلفزيونية ، الاشرطة السينمائية، المجلات ، انواع الاشرطة الالكترونية وغيرها ،  لقد اصبحت عملية الانتاج ومراحلها لا تختلف عما ينتج من بضائع اخرى تلك التي تصل الى مختلف الفئات وبهذا النمط اصبح لكل سلعة ثقافية ثمنها  وطريقة تسويقها ونوعية مستهلكيها.

ومع استحداث الاتحاد الاوربي دخل مصطلح الصناعات الثقافية ضمن اتفاقيات التعاون المشترك التي تضمنتها لوائح الاتحاد وخططه وبرامجه في المجال الثقافي بين الدول الاوربية  تلك التي تم فيها وضع العناوين والاليات التي تعتمد لتنظيم وانتاج الثقافة مراعين فيها نوعية الجمهور ومعيارية الانتاج والقيمة المضافة في الاستثمار الثقافي الى جانب الاشكال والوسائل والانماط التي يقدم بها هذا الانتاج لفئات محدودة او ضمن التوجه العام .

من كل هذا نستنتج ان الانتاج الثقافي قد اصبح مفهوما متداولا ضمن الثقافة العامة للمجتمعات وله من الاهتمام الواضح من خلال رصد الميزانيات الكبيرة لهذا الشأن او عبر الخطط العلمية والبرامج التي  تنفذها المؤسسات والمنظمات والجمعيات بما يتفق وحجم المتغيرات والاهداف المطلوبة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا مراعين في ذلك الحاجات العامة ومتطلبات الواقع المعاصر وقوانينه .

الانتاج الثقافي  وحركية الواقع

يشهد الواقع الثقافي والاعلامي العراقي حراكا واضحا في مختلف صنوف الانتاج الثقافي المكتوب منه والمسموع والمرئي ،وتزايد هذا النشاط خلال السنوات الاخيرة للثقافة اثر اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربيةوهذا ما تابعناه خلال الفترة الاخيرة من مشاركات محلية او عربية وعالمية ، اذ  زارت الدول العربية فرقا فنية وثقافية  من بلدان متعددة ، قدمت  انواعا مختلفة من العروض  التي تابعها الجمهور  وتفاعل مع  مضامينها واشكالها وتعرف  على طبيعة ثقافات بلدان وشعوب العالم التي حرصت  لتشارك في هذه الفعاليات الثقافية والاعلامية، ومن خلال ما رصدته مجلة مرامي عبر هذا السيل من النشاط لايتعلق بالجانب الابداعي نوعا او كما ،اوما يرتبط  بالجمهور تلقيا واستجابة وتفاعلية ، بل اردنا ان نتوقف عند موضوع اساسي وهام  في الصناعة الثقافية والاعلامية  أخذت توليه جهات الانتاج الثقافي  اهتماما كبيرا كونه يعد من ابرز عناصر نجاح او فشل أي نشاط ابداعي  ألا وهو موضوع

الادارة والتسيير الثقافي ،إذ يشكل العاملان الاداري و الاقتصادي اساسا للبنية التكوينية والانتاجية للمنتوج الثقافي لاسيما تلك الاعمال ذات التوليفات التركيبية والجماعية الانجاز التي تتطلب تخطيطا وتدريبا وتوظيفا لمختلف الخبرات وصولا الى رؤية متكاملة تتحقق نتيجة التفاعلية والاستجابة والتأثير في  المتلقي بوصفه مشاركا رئيسيا في الانتاج الثقافي  .

الادارة وثقافة والعولمة

تزايدت اهمية الادارة الثقافية بشكل كبير خلال السنين الاخيرة انطلاقا من دورها الفاعل  وبما يتناسب وحجم المعطيات الجديدة  التي افرزتها ظاهرة العولمة وما نجم عنها من تأثيرات متلاحقة في تقنيات الاتصال والمعلوماتية تلك التي تمخضت عنها التغطية الشاملة للاقمار الاصطناعية  وشيوع استخدام الحواسيب بتقادم اجيالها وبرامجها وتنوع انظمتها الى جانب الارتباط بشبكة الانترنيت مما جعل الحصول على المعلومات ومن مختلف المصادر وخزنها ونشرها امرا في غاية السهولة والسرعة الفائقة.

ان هذه التحولات سرعان ما انعكست اثارها في عملية الاتصال والانتاج الثقافي كما ونوعا فتوسعت حالة التفاعل واستثمار الوقت ضمن حركية اقتصاد السوق الذي بات يتحكم في كل اشكال الانتاج  الثقافي ومواصفاته وطرق ترويجه واعلانه ونوعية المستهلكين له .

إزاء هذه المستجدات التي طرأت على بنية وعناصر العملية الثقافية أي بين المبدع والمتلقي والسوق الثقافي اصبح من الضروري جدا اعادة النظرفي مجمل العملية الانتاجية والترويجية للانتاج الثقافي وفق ما يواكب مستجدات العصر وضروراته  و يما يضمن التفاعل مع الاخروفق رؤية علمية تجعلنا دائما في حالة مواكبة للجديد والعمل على تقديم ما هو حيوي واستراتيجي  لتلبية حاجات الجمهور الحقيقية وليس تماشيا مع حالة الانية والمناسباتية الاستهلااكية فقط .

ولو امعنا النظر الى الواقع الثقافي المعاصر سرعان ما نلاحظ إن المنافسة القائمة اليوم وسط هذا الزحام المتصاعد في سوق العرض وتنوع الانماط الثقافية والاعلامية في الميدان تستوجب من القائمين على الانتاج الثقافي اعادة النظر بالخطط والبرامج  بما يتناسب مع  الواقع المحلي والاقليمي والدولي و توفير اكبر قدر من الخبرات المؤهلة والادارة الكفوءة القادرة  على  وضع  هذه الخطط والبرامج  الحديثة وطرق  ادارتها وتحويلها الى حيز التطبيق بافضل السبل وبما يحقق الاهداف المرسومة للجهات الانتاجية  من جانب ويلبي الحاجات القائمة لاوسع فئات الجمهور عبر عمليتي التواصل والانتشار مراعين المحافظة على الخصوصية والهوية الوطنية من جانب والانفتاح على الثقافات العالمية والتحاور معها وفق وهنا يصبح المنتج  الثقافي  قد بلغ مرحلة تحقق الاثر واوجد البدائل المستقبلية بما يتلائم مع متطلبات العصر والبناء التنموي  .

المشروع الثقافي وثقافة التجديد 

يعرف المشروع  بأنه مجموعة انشطة مقترحة ومبرمجة للوصول الى اهداف ونتائج محددة انطلاقا من معطيات معينة وفق مراحل متسلسلة ومترابطة مع بعضها ارتباطا وثيقا .وتشكل ثقافة المؤسسة اهمية كبيرة في الفكر الاداري والتنظيمي والانتاجي والاستهلاكي وتتمثل بتلك الافكار السائدة في المؤسسة والتي  لابد ان تنسجم مع  الثقافة الاجتماعية القائمة وتشمل العديد من العناصر الملموسة وغير الملموسة كالقيم والاعتقادات والتقاليد والافتراضات والمدركات الحسية واشكال وانماط سلوكية انها اقوة الكامنة وراء تنفيذ النشاطات الثقافية في تحديد ماهيتها وتوجهاتها وتبنى ثقافة المؤسسة وفق صيرورة تأريخية تشترك فيها عديد العوامل لترسيخ رؤية شمولية قابلة للتكيف والتبدل والتطور وفقا لمتطلبات ومستجدات الواقع وبما يتناسب مع الاستراتيجية المطروحة والتي يكون عنوانها التواصل ، التفاعل والتكييف مع المتغيرات الداخلية والخارجية ، الاضافة والتميز

وفي ظل المتغيرات السريعة لم تعد هناك ثقافة معينة تناسب جميع المؤسسات الثقافية وتصلح لكل الظروف ولكن لابد من المواكبة والافادة من ثقافة المبادرة والاضافة واتاحة فرص المشاركة لجميع الاعضاء العاملين  وانتقاء ما ينسجم والاهداف او البرنامج الثقافي المنشود؟

الانتاج  الثقافي والتحقق الابداعي

ان نجاح اي مشروع ثقافي لابد وان يعتمد على سلسلة من المراحل الانتاجية والادارية بغية  تنفيذها وفقا لما هو مرسوم ومخطط له  وهذا يتطلب كفاءة وقدرة في التصرف بفعالية امام مجموعة من الوضعيات  والمشاكل القائمة بغية تذليلها والسيطرة عليها اعتمادا على الخبرات والمعارف والحرص الذاتي والتعاون المشترك بين الاعضاء

وهذا يتطلب منذ البدء تحديد نوعية الجمهور المستهدف و توفير بيئة تتقبل الابداع اي ترحب بالافكار الجديدة وتتجاوز القواعد والافكار السلبية والعقيمة والجاهزة في العمل

تجاوز اعطاء التوجيهات من الاعلى الى الاسفل لانه هذا يقود الى ثقافة البيروقراطية داخل المؤسسة وبالتالي تصبح مشكلة متفاقمة تؤدي الى تبعثر الجهود  وتشتت اركان المؤسسة

انشاء نظام تلقي الافكار والترحيب بالمقترحات لتحفيز الاعضاء على المساهمة والتفاعل الدائم

تطبيق اسلوب الادارة المكشوف اي جعل جميع المعلومات المتعلقة بالمؤسسة او الجمعية متاحة للجميع وبذلك يتم خلق وعي بوضع المؤسسة ومشاريعها ، مثلا يتم الاعلان عن ميزانية المؤسسة وحجم ماتملكه او ما حصلت عليه من دعم مادي ومعونات ومنح ومحفزات وما الى ذلك وهذا النظام تعمل به الجمعيات الاوربية وخاصة السويدية منها  حيث يتم نشر كل انواع الدعم في الوسائل الاعلامية لتكون المعلومات في متناول الجميع .

ولابد هنا الافادة من تجارب الاخرين ومن نتائج المشاريع والانشطة الثقافية السابقة بوصفها خبرات متراكمة من اجل التجاوز والاضافة وهذا يعزز كفاءة العاملين والمشرفين في الحقل الثقافي ويؤهلهم لتقديم عطاءا ثقافيا يتوفر على شروط الجودة والمواكبة و الابداع والمساهمة الفاعلة في التنمية الثقافية المستدامة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سعد القصاب ،من التشيؤ الى الاستهلاك ، الثقافة بوصفها سلعة ، مدونة الكاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى