“النقد يعيش ما هو أكبر من أزمة ” حوار مع الدكتور علي عباس علوان في الذكرى العاشرة لرحيله
حوار / هادي الحسيني


تدوين نيوز / خاص ، يعد الدكتور الناقد علي عباس علوان من المؤسسين في نظرية النقد الأدبي في العراق .. فقد خرج العديد من الأجيال في جامعة بغداد ، وهو من النقاد المتميزين في العراق والوطن العربي ، وقد عرف بدراساته الرصينة المتميزة في نقد الشعر والرواية ، إضافة الى أنه أستاذ النقد الأدبي الحديث في جامعة بغداد لسنوات عدة . الدكتور علي عباس علوان من مواليد مدينة البصرة عام 1938 ، تخرج من كلية الآداب في بغداد عام 1960 ونال درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1964 عن ( شعر جميل صدقي الزهاوي ) . وفي عام 1974 نال شهادة الدكتوراة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى برسالته التي مازالت تشغل الباحثين والدارسين وهي ( تطور الشعر العربي الحديث في العراق : إتجاهات الرؤيا وجمالات النسيج ) وتناول فيها الشعر العراقي الحديث منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ، ومعروفة بوضوح العلاقة الحميمة للشعر العربي ، ومعروف معها ان الشعر ما يزال يحتل مكانة خاصة في دائرة الثقافة والفن في العراق ، ولذا فقد كان طبيعياً أن يحظى هذا الفن بالدراسة والنقد والمتابعة ، وبالفعل تعددت الدراسات في ذلك وتنوعت مداخلها .. وقد طبعت تلك الرسالة في اكثر من طبعة ، وتعتبر منهجاً اساسياً يحتذى به في الوطن العربي . وبعد هذا الكتاب أصدر الدكتور علوان العديد من الكتب والدراسات نذكر منها ( الرواية العربية ومشكلات الواقع ) و ( الوحدة العربية في الشعر العربي الحديث ) و ( قراءة جديدة في النص التراثي ) و ( شعر الشباب وحركة التجديد ) وغيرها العديد من المؤلفات وقد حط رحاله أخيراً داخل العاصمة الأردنية عمّان ليدرّس النقد الأدبي الحديث باحدى جامعاتها ، حيث السنوات الأخيرة تعرض الدكتور علي عباس علوان الى الفصل من جامعة بغداد ضمن حملة شملت اساتذة كبار … وفي عمّان إلتقيت الدكتور علي عباس علوان وكان معه هذا الحوار حول مشكلات النقد الأدبي الحديث في الوطن العربي ومشكلات القصيدة الراهنة ..
* بوصفكم واحدا من النقاد المعروفين في ساحة الأدب والنقد العربي وشاهداً واعياً لحركات التجديد ، كيف ترسمون ملامح الصورة النقدية العربية المعاصرة ، وما ابرز خطوطها وانجازاتها ؟
– صورة النقد الأدبي العربي مضطربة مهزوزة ، ربما هي ، في كثير من مراحل الحياة العربية ، لكن هذا الاضطراب يكاد يكون على أشده في السنوات الأخيرة بسبب قضية ( الحداثة ) في الإبداع وبالتالي انعكاسها في النقد واخطر ما في هذه الصورة ما تعلق بمركزها وبؤرتها الأساس ، وأعني بذلك قضية ( الهوية ) فلقد تنبه النقاد الى أن مناهج الحداثة : بنيوية ، أسلوبية ، علم العلامات ، تفكيكية ، نظرية التلقي ، .. الخ كلها مناهج غربية جاءت بعد خلفيات فلسفية وفكرية وعقائدية استمرت ثلاثة قرون ابتداءً من القرن السابع عشر وصولاً الى القرن العشرين ، ولم يكن للنقد العربي ولا للناقد العربي اي اضافة تذكر فهو تابع منبهر ، متلق ، في أحسن الأحوال ومردد محاكي في اسوأ الأحوال . ومن هنا جاء السؤال الخطير عن الهوية . هوية الناقد العربي أين مكانه من هذا الذي يحدث في العالم : موجة أثر موجة وتيار أثر تيار وموضة أثر أخرى . ثم جاءت الكارثة الأخيرة للعالم كله وأعني بها قضية ( العولمة ) التي بدأت عواصفها تهب على الفكر الإنساني كله . وتزداد معها قضية النقد العربي تعقيدا ًواضطراباً لا بسبب ، إن المثقف العربي يقف اليوم مكشوفاً عارياً من كل إضافة معرفية حقيقية فحسب ، بل يضاف الى ذلك أن الزمن ليس في صالحه من حيث إعادة ترتيب الأولويات ومن حيث مدى قدرته على الأخذ والتفاعل ، ثم العطاء . ان الصورة ستبدو أكثر قتامة إذا نظرنا بعين الجد والفحص لهذا التيار القوي الذي يمثله الشباب المبهورين بالمناهج الجديدة والذين يزعمون لأنفسهم وللآخرين بأنهم وحدهم طلائل التقدم والتحديث ، وأن الآخرين ليسوا سوى رجعيين متخلفين عن روح العصر ومقتضيات التجديد .
* إذن كيف تفسرون الحالة الراهنة لحياة النقد العربي المعاصر ، وهل هو في أزمة منهجية حقاً ؟
– تأسيساً على ما ذكرت فأن الحال أكبر من الأزمة ، ذلك أن الأزمات ترتبط بمرحلة زمنية سرعان ما تتهيأ ظروف وقوى ومتغيرات تساعد على حل الأزمة . لكن الذي يعيشه النقد العربي أكبر من أزمة ، أنها حال من عدم التوازن المريع ، لم يستطع الحداثيون تقديم المقنع والبديل ، ولم يستطع التقليديون كذلك تقديم الثبات المتميز الأصيل . حال اللاتوازن هذه لا تبشر بخير لأنها تضع كل الأشياء على خط أفقي من الرداءة والجودة ، والقوة ، والضعف ، ولأنها حال تفتقد ( الثوابت ) . ولأن موجات التحديث وموضات التجريب مستمرة في مجتمعات الغرب التي فقدت كل الثوابت من ( الروح ) الى ( العقيدة ) ومن ( الله ) الى ( الإنسان ) ومن ( المعقول ) الى ( اللامعقول ) ومن ( العقل ) الى (الذات) ومن ( سجن العقل ) الى ( الميتالغة ) ، فأن ( الأزمة – الحال ) في كلا الأمرين : الإبداع والنقد معاً . فغدا الشاعر المعاصر قد نفض يديه من القصيدة التراثية ثم قصيدة التفعلية ، وأتجه بكليته الى قصيدة النثر مع أزدراء كبير لكل منجزات الناقد العربي القديم والحديث ابتداء من الخليل الفراهيدي وانتهاء بقصيدة السياب والبياتي ، فأن الناقد الأدبي لم يجد أمامه غير الإعتراف الكامل بهذه الحال وحتى لا يتهم هو الآخر بعدم الفهم والتخلف عن روح الحداثة . فأن ترك نفسه لحال الغرق الكامل في الموجة ، محاولا اللحاق بأخر أسماء التفكيكيين وما قاله دريدا بعد ان تحول جاك دريدا نفسه عن البنيوية الى التفكيك ، وبعد أن مات المؤلف ثم مات النص وأتجه الجميع الى القاريء الذي سيأتي يوم موته في قادم الأيام .
* هذه الصورة التي ترسمون ملامحها ، هل هي دلالة صحة أم ( مرض ) ، لا سيما وأن حياتنا الثقافية تتسع لاستقبال الجديد دون فحص ، ثم ما دور المثقف والمبدع في مثل هذه الحال ؟
– في تقديري ليست المسألة قضية ( مرض ) أو ( صحة ) بقدر ما هي متعلقة بقدرة المثقف العربي ، مبدعاً وناقداً على رؤية العالم وموقعه من هذه الرؤية ومن هذا العالم . اذا كانت الأمة العربية بكل تراثها لا تستطيع أن تمنح مثقفيها موطىء قدم ثابت في هذا العالم المضطرب وإن لم يكن المثقف قد فك إرتباطه بكل ذلك التراث الوجداني والأصيل منه ولم يستطع أن يلقح روحه بأجمل ما في الأمة من تراث وترك لأعاجيب التكنولوجيا وقوى الظلام الهائلة أن تمسخه وتوجه ذائقته وبالتالي ذائقة الأمة ، فتلك هي المأساة الحقيقية التي تنتظر الثقافة العربية والمثقف العربي مبدعاً وناقداً . أنني في الواقع أتساءل مع نفسي دائماً ، لماذا نجد المثقف العربي وياستمرار يصر على مراجعة مراحل حياته الفكرية والفنية بين عصر وعصر ، وبين فترة وفترة ويمتلك من الحرية وأحترام النفس ما يجعله يرفض الفكرة المهيمنة والموجة الفنية تحل محل فكرة جديدة وموجة فنية جديدة ؟ لقد هيمن النقد الجديد على الفكر الأوروبي والغربي سنوات الثلاثينات حتى الخمسينات ثم سرعان ما جاءت موجة البنيوية حتى إذا ما جاءت سنوات السبعينات انتهت البنيوية واسقطت مقولاتها الكبرى لتحل محلها موجة التفكيك ولم تستقر طويلاً حتى جاءت موجة نظريات الإستقبال والتلقي ثم سرعان ما عادت الدورة من جديد لتعود الى إتجاهات النقد التاريخي الفني مرة أخرى وإذا كان الأمر كذلك عند مبدعي المناهج المتجددة في الغرب فلماذا يصر الناقد العربي على ألأن يكون أحادي الجانب لا يرى في الصورة إلا اللونين الأسود والأبيض ويحرص أن يكون مدافعاً عن الموجة الجديدة .
* اذن كيف ترون ( الإبداع ) الحقيقي ؟ وكيف يرتبط إبداع الشعر والفن بالنقد ؟
– يرتبط ( الإبداع (بروح الإنسان ووجدانه وإتساع رؤيته للعالم ، صحيح إن الفن بشكل عام يقدم للإنسان المتعة والفائدة ، ولكن الأكثر من ذلك فأن الإبداع الفني يقوم بعملية أكبر من حيث تربية ذوق هذا الانسان وتحضره وتحقيق أعلى درجات إنسانيته ، أما الشعر فقد قال عنه هيجل أنه ( فن الفنون ) أو هو أرقى أنواع الفنون ، وكان يظن قبل هذا إن الموسيقى هي أعلى مراتب الفن الإنساني ، لكن هيجل غير المعادلة . في أية حال يرتبط النقد بالأدب والشعر ، والنقد يأتي بعد الإبداع فينظر ويستخلص القوانين ومنذ القديم كان أرسطو قد وضع قوانين الشعر الدارمي والملحمي بعد أن قرأ هوميروس واسخيلوس وارستوفانيس وكبار شعراء اليونان وفي ساحة الإبداع العربي المعاصر فأن كماً هائلاً من الإنتاج الشعري إلا أنه إنتاج غير مؤثر ، بل هو يفتقد الى الأصالة والقوة والشاعرية .
* قصيدة النثر هذه الموجة الصاخبة ، كيف تلخصون الموقف النقدي منها ؟ وهل هي في طريق الحداثة الوحيد كما يصر على ذلك كثيرون ، ومنهم أسماء نقدية معروفة ؟
– لقد ضاع الشاعر والمتلقي والناقد في خضم هذه الموجة الهائلة من التجريب في عالم القصيدة وطغت قصيدة النثر طغياناً غير منطقي مع أنها واحدة من نماذج القصيدة في الغرب ، بل هي في الواقع ليست النموذج المتقدم عندهم ولا سيما عند الفرنسيين الذين تخلوا عنها ولم يعد يكتبها كبار شعرائهم ،ومع ذلك فأنك تجد معظم شعراء العربية والشباب خصوصاً لا يحسنون إلا هذا النموذج وليتهم يحسنون كتابتها متصورين أن مجرد التخلص من الموسيقى والإيقاع والوزن والقافية كفيل بأن يجعلهم أحراراً في قضية الإبداع . ولعلهم يجهلون إن كتابة قصيدة النثر عملية صعبة بل شاقة ذلك أنها تتطلب عمقاً في الثقافة وتمرساً دقيقاً في استخدام المفردة اللغوية وكثافة صورية متميزة ، وبناء هندسياً دقيقاً ومعمارية عالية تجمع بين إيقاعات وموسيقى داخلية في تراكيب ومفردات محسوبة بدقة وصولاً الى القصيدة المؤثرة ، وتلك أمور يجهل معظم الشباب اسرارها . ولذلك كله لم يستطع النقد ولا أكثرية النقاد تعاطفاً مع قصيدة النثر ( أدونيس وأبو ديب ) . إكتشاف أو الوصول الى قوانين القصيدة أو الوصول الى حال من الوضوح والإتفاق على أسس وثوابت فنية وجمالية وكل الذي أنتهوا اليه أن هذه القصيدة تظل مفتوحة الأفق على التجربة وأنها لم تأخذ مداها الزمني لتكّون ذائقة قرائها كما أخذت مداها قصيدة الشعر الحر ، متاسين أن السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري كانوا قد قلبوا موازين الذائقة والنقد خلال سنوات قليلة وما أن حلت سنوات الخمسينات حنى كانت قصيدة التفعيلة قد قدمت أعظم إنجازاتها وصارت شغل الشعراء والنقاد والقراء وكتب من خلالها كبار شعراء العربية الذين أبتدأوا حياتهم بقصيدة التراث . لكن قصيدة النثر وقد أبتدأت في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات انطلاقاً من مجلة شعر اللبنانية وحتى اليوم تصعد وتهبط وتتوقف وتسرع ولكنها لم تستطع الوصول الى ما وصلت إليه قصيدة التفعيلة وما قام به بعض الشعراء أحياناً كأدونيس وسعدي يوسف من كتابة بعض نماذجها ليس إلا مغامرة لم تكن في مستوى إبداعاتهم السابقة ، وفي كل حال يظل النقد يرصد هذه الظاهرة ويؤشر سلبياتها ويدعو إلى عدم إعتمادها النموذج الأوحد لكتابة القصيدة وأن كان بعض نقاد الحداثة قد راهنوا على أنها الجواد الرابح ، وأظن رهانهم لم يكن دقيقاً ولن يكون رابحاً .
* هل لهذه القصيدة انجازات كبرى ، وكيف تنظرون الى شعرائها المعروفين ؟
– هذا الكلام أقوله على النماذج العالية من هذه القصائد التي كتبها محمد الماغوط وأدونيس وتوفيق صائغ وفاضل العزاوي وسركون بولص وسعدي يوسف . أما الآخرون فلم يكونوا إلا هاربين من صنعة الفن المطلوبة وأقتدار الشعراء وإمتلاك أدوات الفن الشعري وبمعنى آخر أنهم شعراء ضعفاء يحجبون هذا الضعف وذاك الهبوط وقلة الموهبة بالإندفاع الشديد لكتابة قصيدة النثر والإدعاء بسقوط كل النماذج الأخرى من انجازات القصيدة العربية . أما علاقة هذه القصيدة بمفهوم الحداثة ، فأن القضية ليست بهذا التبسيط ، ذلك أن الحداثة رؤية للعالم وينبني على هذه الرؤية موقف وانجاز . والواقع إن النقد يتحمل مسؤولية كبرى عن تبسيط قصية الحداثة والوصول بها الى حال من الإسفاف والهبوط . نحن نتحدث عن الحداثة والمجتمعات العربية وعلى كل الأصعدة نشهد حالات التمزق والتشرذم والتراجع في الوقت الذي تعنيه الحداثة أنها الوجه الآخر من التجاوز والتخطي والتقدم لما هو ماض ورث .
*ما الرد الحضاري وبالتالي الموقف النقدي من موجات الحداثة والتجريب في الأدب والنقد ؟
– نحن نواجه تيارات من التغريب والعولمة والإستحواذ سياسياً وفكرياً وحضارياً ولكننا ننادي بالحداثة في الفن والأدب كيف يمكن للفنان أن يعيد صياغة العالم والوجود صياغات جديدة قوية ونشطة وجديدة وهو يعيش كل حالات الإحباط والتراجع والتخلف والأرهاب والظلامية . إن حركات التجديد والتحديث التي مرت بالشعر العربي ابتداءً من أمرىء القيس مروراً بأبي تمام والمتنبي وأبي نواس كانت نتيجة حتمية لحالات الحضارة المزدهرة التي مرت بها المجتمعات العربية وليس من المعقول أن تنطلق الحداثة في عصور التخلف والتراجع لذلك أرى أن ندعو الى عصر جديد من التنوير الثاني تجديداً لعصر التنوير الأول الذي ابتدأ في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وشهد كل الإنجازات التي تحققت للأمة العربية خلال القرن العشرين .
* ما الإنجازات الأخيرة للدكتور علي عباس علوان عدا كتاب ( نقد الرواية – محاولة في تحديث المنهج ) وما شواغله الأدبية ؟
– انا الآن بصدد استكمال فصول كتابي الذي أعده عن جماليات استقبال القصيدة العربية في نماذج تراثية وحديثة كذلك أضع اللمسات الأخيرة للفصل الخاص بالمختارات التي أعددتها في خمسين قصيدة من شعر عبد الوهاب البياتي . والمشروع الثالث الذي آمل انجازه خلال هذا العام عن ثلاثة روائيين عرب هم عبد الرحمن منيف وفؤاد التكرلي وابراهيم الكوني تحت عنوان ( مصابيح الرؤية ) دراسة في ثلاثة نماذج روائية ، وهناك مشاركة وتديم لكتاب ضخم تحت عنوان( فتوحات البياتي ) وهذا الكتاب مهم في تقديري لأسباب منها إن أكبر الكتاب والنقاد والشعراء في العالم والعالم العربي سيشتركون في تحرير هذا الكتاب مع بلوغ البياتي الثالثة والسبعين ، كما إن هذا الإنجاز سيكون أحد الشواهد الفنية والفكرية العربية في نهايات القرن العشرين وعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين . القرن الذي سيشهد فتوحات جديدة لأكبر شعراء العربية في هذا القرن . كذلك ما يشغلني وأعد له حالياً مشروع مهم جداً حول التنوير الثاني للثقافة العربية وأظنني سأبد بنشر فصوله في الأشهر المقبلة ..