” زمن الشعر أم زمن السرد ” مقال للكاتبة والصحفية منى وفيق – المغرب


في درس تاريخ الأدب، تعلمنا أن الشعر ديوان العرب، لم نكن نعرف معنى هذا القول المأثور سوى أنه يختزل قيم القبيلة وأعرافها وتقاليدها، يمنح للتاريخ معنى وللوجود فعلا. الديوان الذي لم يكن غير ذاكرة شعبية يحفظها الرواة والمعلمون والشعراء، وكل من أصابته لوثة الشعر..تناقلوها وحافظوا عليها أزمنة طويلة. وحينما جاء الإسلام اشتغل الناس بالسيف عوض القصيدة، فمسح الراوي جزءا كبيرا من هذه الذاكرة؛ تلك التي يفترض أنها كانت تتعارض مع مبادئ الدعوة الجديدة. كثيرون أضافوا مدونات جديدة لقبائل لم يكن لها مجد شعري قوي، وكثيرون حوروا كل ما يمكنه أن يسبب حساسية عقدية..وظل الشعر ديوان العرب.
تعلمنا أن ننسى كل ذلك، ونقول “إن الشعر ديوان العرب”، القناة الوحيدة التي تمكنت من استدراج المتلقي إلى ساحاتها الشاسعة، ساحات غير متناهية مارست سحرها علينا رغم تشوش القناة وتراجعها..في الزمن الذي أسس الشعر لنفسه ديوانا، وزع موضوعات مقننة فيما سميت بالأغراض الشعرية وأوصافها إلا أن الشاعر لم يوقف قريحته على ما هو كائن بل فتحها على جزر عذراء يتيمة غير مسبوقة فيما سمي بالأشباه والنظائر، وفيما بعد بالمشاكلة والاختلاف أو التماثل والتمايز. متطلعا إلى نص مؤجل غير خاضع لسلطة ما.
لقد كان الجو العربي القديم جوا شعريا بامتياز، شيد أبراجه، ونصب حرسا على مملكة الشعر مانعا أي تسرب يمكن أن يخلخل جوهر هذه المملكة. وحينما يولد جنس أو ينمو يقف حراس المملكة مدافعين عن قناتهم. فشلت الأجناس النثرية أن تصبح قناة القبيلة، ظلت تعيش خارج مجالس الحكماء، ونوادي الملوك، ومنادمات الفرسان..ظلت بعيدة عن المواجهة، وارتكنت إلى الهامش فيما سمي أدب العامة. هناك أجناس تلونت بمساحيق شعرية خالصة، فوجدت لنفسها قدما صغيرة، ونقصد بالجنس المتلون: المقامة، ومع ذلك لم تتمكن من مناوشة ذوق عسس مملكة الشعر، فلم تأخذ اعترافهم، ولم يفردوا لها أي باب يذكر..ظلت تسير دون بلاغة خاصة بها، كان عليها أن تتدثر ببلاغة الأبواب حتى تستمر, و إلا تعدم كما عدمت محاولات كثيرة حاولت الخروج عن نمط القصيدة إلى نمط آخر.
الرسالة من الأجناس النثرية التي تمكنت أن تجد موطئ قدم في مصادر القدامى، وبالأخص الرسالة السلطانية التي احتاجتها القبيلة في مراسلاتها قصد إحداث تواصل أو مشورة أو عزل..وقد برع المترسل العربي في وضع قواعد تهم الرسالة والمترسل وما يرتبط بهما..والواضع العربي تفاعل مع الرسالة بمفهومها التواصلي، فألغى من عدته جميع الرسائل التي تخرج وظيفتها من الإبلاغ إلى ما هو جمالي، كرسالة الغفران التي تجاوزت المعطى الترسلي الضيق إلى المعطى الجمالي المفتوح، ورغم أن موضوعها شعري بامتياز باعتبارها تخوض في قضايا الشعرية العربية إلا أنها ظلت خارج مثار نقاش النقد، وضعها المترجمون في باب الرسائل الطوال، ولم يصدر أي واحد منهم موقفا نقديا سوى الذهبي في تاريخه حينما قال فيها فذلكة وعلم كثير…
داخل حلقات تاريخ الأدب، مازلنا نكرر نفس مقولات القرن الرابع الهجري، مازلنا نستعيد القصيدة في قالب حريري، نلبسها جبة مطرزة، ونستعيد مناسبة ولادتها، والآراء التي قيلت فيها، ننظر إليها بعين العظمة والإكبار، نلمس مدى مطابقة استعاراتها للحقيقة أو قربها منها، ومدى استلهامها لمقومات العمود..وحينما نرفض نصا نفتش عن أخطاء العروض وعيوب القافية، وبرودة التخلص، وسوء المعنى..قليلون تمكنوا من الإقامة في النص وتحريره من الضوابط الضيقة..
خارج تاريخ الأدب بقليل نسمع مقولة جديدة أن السرد ديوان العرب الجديد، وأن بلاغة جديدة تحتفي بمقوماته تستعين بمقاربات علمية بدأت بالمناهج التاريخية، ثم تأثرت بالبنيوية واتجاهاتها، سابحة باتجاه نظريات التلقي والنقد الثقافي وتحليل الخطاب..وكلها تراهن على تعميق معرفتنا بالنص بغض النظر إن كان الهدف معرفيا خالصا أو جماليا أو فلسفيا، أو ربما خليط من الأهداف..
إنه من الخطأ الحضاري أن نعيد ما سقط فيه الذين رأوا بعين واحدة هي عين الشعر، أو عين السرد، أو أي عين مفردة، تبحث عن الشبيه عبر الإلغاء والإقصاء لكل ما يتعارض مع رؤيتها الجمالية..مقابل ذلك ينبغي أن تتحاور الأجناس وتتفاعل، أن يسترفد كل جنس من آخر دون أي حدود أجناسية، أن نراهن على فعل الكتابة ومدا إمكانه التعبير عن حاجاتنا الجمالية، وقدرتها على التحليق بنا نحو كل شيء جميل.
بهذا المعنى يغدو الفن هو الذي يتحكم في رؤيتنا للوجود بغض النظر عن الوسيلة التي نتواصل بها معه أهي شعر أم سرد، وبدون ربط زمن بجنس أدبي معين، لأن الزمن الذي ينبغي أن يسود هو زمن الإبداع.