“عن الزهد والتخلي والعناق” للكاتبة المصرية راقية جلال الدويك


تدوين نيوز – خاص
ما زادني الزهدُ إلا مُلكًا..
قضيتُ العمرَ ألهثُ وراء من أحبُّ خوفا من فِراقه.. فلطمني الفراق الجبريّ.. كما وعرفتُ فراقَ الخيانة.. فكان أن تدربَت روحي على الانسلاخ، والتخلي، وتقبل دوائر الوحدة المتواترة.
قضيتُ العمرَ أركضُ وراء أحلام التفوق والتميز.. فألجمتني مفاجآتُ الوصول المَهين، وهُزالُ المآلاتِ الأليمة، وأثمانُ التعب الباهظة.. فكان أن أجبرتني خيباتُ الأمل على التخفف من أحمال المركز الأول، والخطوةِ الفارقة..
ثم علمتني هي ذاتُها جمالَ الموقع الثاني، والعاشر، وأحيانا الأخير.. وكان أن علمتُ أن انتظامَ تنفسي أهمُّ كثيرا من قصب السبق.
علمتني الرغباتُ على اختلاف وجوهِها أنها أبوابُ ضعفي، ونوافذُ سقوطي ضحيةَ ضعفي.
ثم.. علمني ضعفي أن أتخلى عن رغباتي يوما وراء يوم.. وهْما وراء وهْم.
خوفًا وراء خوفٍ صرتُ أتخفف من أحمالِ الرغبات والغواياتِ.. حتى ملكتُ نفسي.. وحكمتُ روحي.. واستطعت التخلّي.
التخلي.. ليس يأسًا.. ليس خيانةً.. وهو كذلك ليس شبعًا أبدا
التخلي.. جائزةُ تحمل الحرمان الجبريّ.. حين تعرف كيف تُحيلُ العصا التي تقرعُكَ إلى مُتكئ يقيكَ السقوط.
التخلي.. درسُ العمر.. كلما أدركتَه مُبكرا.. وأتقنتَه جيدا.. كلما صدقَ ادعاؤك للقوة..
حتى يأتيك يوم لا تعود فيه عبدا لشيء.. ويصحَّ لكَ الانتسابُ لدوائر الملوك.
————–
إمنحني العطية َ دون ثمن…
أدخلني الجنة وانا مازلت على الأرض
إرحم عقلي من إنشغال الدنيا وتوقعات الأيام
انا الهو بالصبر منذ عرفت فكرة الأيام والتقويم
كان يلهو بي في بدايتنا معاً
فظللت أحايله وانازله حتى جاء يوم وهزمته في عقر دارة بالانتظار والتسليم والقبول.
فقلت الزهد الزهد
الزهد جنتي
لكن دنياك حُلوه
والاحلام تمنحها ألوان ساحرة تشغل العين عن الخيبات السابقة..
أنت من خلقت الدنيا وخلقتني
وأجريت هذه المجادلة السرمدية
أنت لا تعين دنيايا علىّ لكنك كثيراً ما تعينني عليها
لكنني اليوم أريد العطية خالصة دون ان انشغل بحسابات الايام
اريد ان تكون المسألة بيني وبينك متحررة من قوانين الدنيا
اعلم إن ذاك لايكون الاّ في الجنة
لكنك أنت خالق الجنة انت صاحب الاكوان اجمعين وما الدنيا
والجنة
وانا
الا قطرات بين يديك تسقط تلك وترفع هذه ما لاحد منا عليك سؤال وانا لا أسأل..
انا اتذلل..
فارحم ذلتي واقبل دعوتي وافتح لي على الارض جنة بإسمي جنة تخصني اركض إليها واسكن فيها واتدلل بين عطاياها
فأختار تلك الان وأرجئ هذه لغدًا
فكلهم ملكي كلهم خالصون لي وكلهم منك وكلنا لك فامنحني يا ملك
——
والعِنَاقُ في أصله حاجةٌ إنسانيةٌ خالصةٌ لا يشوبُها إثمٌ ولا يحُفُّها رياء
العِناقُ الحقُّ يعني أنك قد ربطتَ على قلبك حَجَرَ الأمان ودثَّرت ذراعيك بدِثارِ السكينة
وكلما طال العناقُ كلَّما تكسَّرت الحواجزُ دون دمٍ
وكلما توثَّق العناق كلما عنيَ ذلك “أنا هنا فاطمن .. أنا هنا فاستكن”
العناق فعلٌ إنسانيٌ متكاملٌ بذاتِه .. لا سَعْيَ قبلَهُ ولا سَعْيَ بعدَهُ .. والعِناقُ الحقَّ دليلُ اتزانِ الجسدِ واتصالِ الروحِ ودليلُ سلامةِ القلبِ إذْ يكتفي بتواصلٍ صَموت.
العِناقُ يعني أنك استعطتَ النطقَ دونَ عَناءٍ وملكتَ المعنى
والعِناقُ -إن صح-َّ يمنحُ عهْداً لا تمنحُه الصكوكُ ولا توثِّقه المحابرُ.
العِناقُ مُفتتحٌ وختام وقولٌ وردٌّ .. وهو يمينٌ موثقٌ بأن الكونَ قد شهدَ مشهدَ صدقٍ يؤرِّخُ لخلْقِ الروح قبلَ خلْقِ الشرور.. ويمنحُ الأرضَ في كلِّ معانقةٍ عفيةٍ عمراً جديداً.
راقية جلال الدويك
كاتبة مصرية