عن القصة :إلى الكاتبة المغربية العزيزة سلوى ياسين

محمد خلفوف/ قاص و شاعر من المغرب.

تدوين نيوز – خاص

(أنا و أنت موجودان داخل النص فقط.)

دريدا.

 قبل شهر سألت زوجة الكاتب :

ـ لماذا تريد العودة هناك؟

ـ أريد كتابة قصة جديدة…

ـ ألا يُمكنك كتابتها هنا ؟ هناك لا أحد يعرفك     !!!

ـ لا أعرف ، أحس أن هذه القصة يجب أن تُكتب هناك…

ظلت الزوجة حائرة أمام قرار زوجها ، الذي جمع حقيبته و استقل أول طائرة متجهة إلى هناك.

الكاتب و شخصيته:

  بدأ الكاتب كتابة قصته . لكنه لم يكن يعرف ماذا سيكتب ! يعرف أنه سيكتب لكن حول ماذا و كيف، لم يكن يعرف !لقد كان ممتلئا باحساس الكتابة فقط. وبحث في داخله عن أشياء كثيرة، قلب الوجوه و الأسماء و اللحظات السعيدة و البئيسة… لكنه لم يكتب شيئا. فكر في زوجته الشقراء الألمانية، في جسدها المتناسق الذي منحه الدفئ في ليالي برلين الباردة.. إنها وحيدة الآن ، وهو هنا يبحث عن قصة، يريد كتابة قصة. وهو يبحث تذكر الشاب الذي قابله في المكتبة، وفكر كيف أنه تغير في ظرف خمس عشرة سنة، من طفل صغير الى شاب يافع…وهل الزمن كافٍ لتغيير الإنسان؟

ومثلما صاح أرخميدس في حمامه قبل آلاف السنين: صرخ الكاتب :

” وجدتها.. وجدتها…”

شعر الكاتب بالسعادة ، كأنه قد عثر على كنز… شخصيات الكاتب هي كنزه و تروثه… و بدأ يكتب.

كان للقصة ثقلها على الكاتب. كان يكتب و يتوقف باستمرار، يكتب و لايعرف ماذا سيكتب، صارت الثروة( الشخصية ) مصدر عذاب له. إنها موجودة، لكنه لا يعرف ماذا سيفعل بها، تتحرك في رأسه، يسمع صدى الصراخ و البكاء… تتحرك في رأسه ويحاول تحريكها على الورق. يراها مكتملة أمامه، يعرف كل شيء عنها، حتى ما لا يعرفه يحاول اختراعه. هل الكاتب يخترع شخصياته أم أن الشخصيات تختار كاتبها؟ ربما اختارته هذه الشخصية دونا عن كُتاب العالم، وربما اختارها هو دونا عن شخصيات هذا العالم الفسيح! إنه لا يفهم هذا التواطؤ بين الكاتب و شخصيته، لكنه يريد أن يخترع شخصية، أو أن يخلقها، ليس من العدم، لا شيء يُخلق من العدم، أن يحولها من حالة إلى حالة كما في الفيزياء… لكل شخصية فزيائها الخاصة، لكل شخصية عناصر مميزة، أو عادية، تصنع نفسها.

يحس أن هذه القصة معذبة، و أنها بلا ملامح، بلا نهاية، ممكنة و غير ممكنة… يحاول النوم ولا يستطيع، يقفل عينيه و تظل الشخصية تدق جدار رأسه… كأن هذه القصة عملية جراحية. يطلبون منه خلع النظارة و الساعة و محفظة النقود. ينزل معهم إلى مستودع العمليات، يشم رائحة الموت، يطلبون منه خلع ملابسه كاملة و التوقيع على مسؤوليته عن العملية، يفعل، انها اللحظة التي تختلط فيها آيات القرآن بالقصائد… تجتمع وجوه الممرضين من حوله، يرفعون جسده قليلا ويحقنوننه بالبنج، في منتصف ظهره تحديداً، ثم لا يعود يحس بجسده، يفقد إحساسه بالعالم حوله، تنتابه رغبة مفاجئة في الضحك، فيضحك، ولا يعرف إن كان ضحكه قد امتد… لأنه يدخل في الغياب، تاركاً للمشارط حرية اللعب في جسده.

يقحم الكاتب أنفه في حياة الشخصية، و يصبح مثل كاميرا مزروعة في حياته. يعرف كل شيء، يراكم المعلومة فوق المعلومة، و التفصيل فوق التفصيل… تتجول عين الكاتب في حياة الشخصية، و يصير مثل ظلها، بل أكثر من الظل، يصير جزءًا من كل شيء فيه.

هنا يجد الكاتب نفسه أمام حقيقة جميلة و مرعبة. ويحس بشيء اتجاه الشخصية التي أقتحم حياتها و التي صنعت يداه… يحصل ذلك النوع من التعاطف. التعاطف المجهول. ربما ينبع من الصدفة، الصدفة التي تجمع الكاتب بشخصيته، و الشخصية بكاتبها. يؤمن الكاتب بأن الكاتب عليم دائما، هو المتحكم الأول في شخصياته، هو مخرج القصة من الأول إلى الآخر.يعرف أن للنص ظروفه الخاصة، لكنه يؤمن بمسؤولية الكاتب اتجاه شخصياته… يستطيع أن يقودها نحو القمة أو نحو الهاوية. و مادام الواقع لا يسمح بالتغيير فالخيال يسمح بذلك. ويمكن للكاتب أن يوجه شخصياته، و أن يقودها نحو الثورة المثالية كما في روايات الواقعية الاشتراكية… والكاتب ليس اشتراكيا، إنه إنسان، انسان بشكل من الأشكال.

الكاتب في مأزق أدبي كبير…

الشخصية وكاتبها:

منذ بدأ الكاتب كتابتها ، لم تعد الشخصية تعرف نفسها، تعرف من تكون.

  بدأتْ تشعر أن حياتها تحصل في مكانين و زمنين مختلفين: في الحياة الحقيقية و الزمن الروتيني الذي يتبدد بين العمل و المنزل، وعلى الورق وفي زمن الكتابة: الزمن الذي يجمع بين ماضيه وحاضره و مستقبله.. وهو يطفو بينهما بلا استقرار، و يعيد انتاج نفسه بشكل مستمر دون أن يقاوم أو يرفض الانصياع. يجلس على حافة سريره محدقا في رجليه وهما تهتزان بلا توقف.. يتكور على نفسه ، يضع يديه على أذنيه ويحاول استجلاب الصمت فلا يسمع شيئا سوى صمت مدوٍ طويل… تحت الدوش ، أيضا يقف عاريا يرتجف تحت الماء البارد، مهما كانت درجة حرارة الماء كان يرتجف.. يقفل أذنيه بكفيه، ويترك الماء ينساب، ويسمع خريره يصطخب داخل روحه.

 في الجامعة ،جلس في مكتبه يصحح أوراق الامتحان الذي أُجري قبل أسبوع. وسط هذه الأوراق المتراكمة أمامه فكر في مدى احتمالية أن يكون امتحان آخر مشابه ، أو الامتحان نفسه، مدته ساعتان من الزمن، حضره عشرات الطلبة جلسوا على طاولات متباعدة يحلون المعادلات… قد حصل على الورق.. وأن مكتبا آخرمثل هذاـ أو هو المكتب نفسه ، و أما مصابة، و أبا مات منذ سنوات، وآخر بنفس الاسم و الملامح والصفات و الطباع… و أن كل شيء، يشبه كل هذاـ حياة أخرى، تحدث على الورق.

  هل أنا انسان حي: يسير في الشوارع، يسكن شقة معتمة، يشرب الحليب، ويحل المعادلات… أم شخصية في قصة.

 يعيش حياته بهذا التردد و القلق و الخوف… يتأملها من بعيد قبل أن يُقدم عليها… ينظر إليها من أكثر من زاوية ومرآة.

  حياته صارت مثل من يرقص  في الشارع، أو يمشي عاريا أمام أنظار الناس.

***

   يريد أن يرى خالقه. يريد أن يرى هذا الذي جعل من حياته قصة، وجعل منه شخصية على ورق.. يحركها مثل دمية خشبية في عرض للنائمين. من هذا الذي يختبئ وراء هذه الكلمات المكتوبة، المضطربة، مثل مدراء الشركات الكبرى.

ربما كان الكاتب مجرد استيهام وهمي. تردد كثيرا في الذهاب إلى الطبيب وأخباره:

ـ دكتور.. من فضلك أُعاني من كاتب في حياتي…

ـ كاتب!! كيف؟؟

ـ يوجد كاتب يكتُبُني…

من سيصدق هذا الهراء؟

 ” أريد أن أراك.. كل ما أريده هو أن أراك رؤية العين، لكي أدركك بالعقل… اذا كنت حقيقيا فأظهر أيها الكاتب، أظهر لأراك، وان لم تكن كذلك: فأخرج من حياتي، ومن دماغي.. أخرج.. أخرج.. أخرج.. فأنا لا أصلح لأكون شخصية لقصتك

أرجوك.. اظهر لأراك…”

  ليس الكاتب إلها، أو شيئا خارقا لا يُدرك… لم يكن سوى شخص عادي، يجلس بالساعات على مكتبه للكتابة. ينام و يأكل ويشرب ويتغوط و يمرض ويمشي في الشوارع… لو أنه كان يستطيع أن يكون أي شيء عوض أن يكون كاتبا لفعل. لكن الكتابة أشبه بالقدر أو اللعنة أو الموت… لا مفر منها.

ـ ها أنا ذا يا شخصيتي..!

ـ من تكون؟

ـ أنا كاتبك…

ـ تبدو عاديا !!

ـ أجل.. عادي: بقميص خفيف و بنطال جينز ونظارات…

ـ ماذا تريد مني؟

جلس الكاتب إلى جانب الشخصية على طرف السرير:

ـ ما رأيك في أن تكون بطل قصة؟

ـ كيف أكون بطلا ؟ أنا لست وسيما أو إنسانا خارقا؟

ـ لا يهم.. في القصة يمكن لأي شيء أن يكون بطلا: إمرأة عابرة، السكين، القلم، المرآة… لقد مضى زمن الملاحم  و الشخصيات الأسطورية يا صاحبي…

ـ لماذا أنت هنا؟

ـ لكي أكتب…

ـ لكي تكتب، أم لكي تحشر أنفك الأفطس في حياة الآخرين و تحولهم إلى شخصيات أدبية ؟؟

ابتسم الكاتب و قال:

ـ أنا هنا لأكتب.. لكي أكتبكَ…

ـ و لماذا أنا؟؟

ـ لا أعرف، هذا سؤال طرحته على نفسي ولم أجد جواباً… لا أهمية للكاتب بلا شخصيات… كاتب بلا شخصية مثل الأباء بلا أبناء و الحاكم بلا شعب…

قام وسار بضع خطوات  في الغرفة:

ـ لا أعرف.. أجدك مميزاً…

“مميز” ربما كانت هذه الصفة هي التي يجهلها عن نفسه.

  امتلأت الغرفة بضباب كثيف ، جعله يضع يديه على أذنيه و يهتز فوق السرير.. كان الكاتب يعرف هذا جيدا.. انحنى على ركبتيه وحاول أن يزيل برفق كفيه المطبقتين على أذنيه..” اهدأ..اهدأ..”.

     قال الكاتب:

  ـ كل ما تمنيته في الحياة هو أن أكون كاتبا.. لقد كنت فاشلا في الرياضيات ، لا أفهم في المسائل و المعادلات، و لا كم تساوي (x) أو (y) …  كان الجميع يراني غبيا… كنت شخصاً مرفوضا ولا أحد يريد أن يسمع صوتي. كنت ذلك الولد الفاشل الذي لا يجيد فعل شيء في هذا العالم سوى الكتابة. كانت هذه صورة الآخرين عني.. كل ما أردته، بصدق، هو أن أكتب. كنت أكتب و أكتب و أكتب… فكرت كثيرا في الإنتحار، وفي تمزيق أو إحراق كل هذه الكلمات. أرى أيامي تتساقط أمامي لكنني أكتب… كنت أحتاج إلى القليل من الهدوء و الكثير من الأمل…لا كتابة بلا أمل. وعندما سافرت إلى ألمانيا كنت على استعداد لفعل أي شيء لأكون كاتبا بدل جمع المال مثل بقية المهاجرين… وعندما صرت كاتبا، ولا يهم إن صرت أهم كاتب في العالم حتى.. لا أزال ذلك الفتى الفاشل الذي لا يريد شيئا سوى أن يكتب، ويعرف أن ما يكتبه بلا جدوى ولا أهمية له…

  لقد تركت ُ العالم كله وراء ظهري … أنا لم أعد أنتمي لشيء.. أنا أنتمي لنفسي، لا أملك شيئا سوى هذه الكلمات التي أعرف أنها بلا أهمية ولن تغير شيئا…

  خيم الصمت لبعض الوقت على الغرفة، استمر الكاتب خلال ذلك بالتدخين. و كانت الشخصية قد هدأت تماما، وقامت بفتح النافذة لكي يدخل بعض الهواء الى الغرفة.

ـ أرجوك أخبرني ماذا تريد؟

ـ حسنا.. إسمع: ما رأيك في أن تتركني أكتبك داخل هذه القصة، وبالمقابل سأقوم بتغيير مسار حياتك من خلالها… ما رأيك؟

ـ لم أفهم !!

ـ لا عليك.. لا تشغل بالك بهذه الأشياء الأدبية… تصرف بطريقة عادية داخل القصة.

 نظرت الشخصية مطولا إلى كاتبها دون قدرة على الكلام. كانت حائرة ، و خائفة.. هل تطيع كلام الكاتب، أم تختار مسارها الخاص؟؟  ومثل أحد أفراد المافيا : اختفى الكاتب ودخان غليونه بشكل مفاجئ، اختفى كما ظهر، تاركا شخصيته غارقا في الدهشة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى