وداعا ايها الكائن الذي لاتحتمل خفته،ميلان كونديرا يرحل في قمة شهرته العالمية وحلم نوبل لم يتحقق
محمد أسماعيل صحفى وكاتب من السودان

تدوين نيوز – خاص ، قال الاديب السودانى معاوية نور (1909 – 1941م):سيجيء اليوم الذي تزول فيه الفلسفة كما نعرفها الآن؛وأن الفن سيبتلع كل صنوف التفكير والشعور والدين والعلم الرياضي،ليخرِج بذلك فنا يحمل كل ميزة هؤلاء ولا يفقد طابعه الخالِق وقالبه الدقيق..
لقد ظلّت نبوءة هذا الفتى وبصيرته السليمة تخترق الحجب لتستشرف آفاقا لم تكن لترى في وقته؛ لذلك كان يعيش، ببصيرته النافذة تلك وذكائه الحاد هذا،في زمنٍ ليس زمنه حتى وُصِف بالجنون.
بعد عشرين عاماً من مولده جاء إلى العالم ميلان كونديرا(1 أبريل 1929-11يوليو 2023م) التشيكي الأصل، الفرنسي الجنسية، اليساري الهوى،الإنساني الهوية ،والذي اقتحم عالم الكتابة مستندا على إرث مواطنه فرانز كافكا.
تحول فن الرواية على يدي ميلان كونديرا تحولا دراماتيكيا . فلم تعد الرواية مجرد قصة أو حكاية أو إفراط في البلاغة والحلي اللغوية؛بل صارت تركيبا وتعقيدا فلسفيا وعلميا يتوسل بالسرد كي يعطي الرواية أخلاقيتها الوحيدة التي إن افتقرت إليها. افتقرت إلى وصفها بالرواية…
لااعتقد ان هنالك كاتب روائي ترك اثرا عميقا في من القراء كما فعل ميلان كونديرا الذي انتقل بالسرد الروائي الى آفاق ارحب تعانق اسئلة الوجود الحارقة، وتلتئم مع انسانية الانسان
كان كونديرا صاحب غراميات مرحة.. وكتاب الضحك والنسيان.. والحياة هي في مكان اخر .. وخفة الكائن التي لا تحتمل.. وحفل التفاهة ….وغيرها من الروايات والمؤلفات هو كاتب الغضب بامتياز الذي ثار على كل شيء حتى على نفسه
بعد طول رحلة مع الكتابة والتمرد والعصيان انتقل كونديرا اليوم الى ( الحياة في مكان اخر) وكانت آخر رواياته (حفلة التفاهة) وتدور أحداثها في الأحياء الفرنسية وحديقة اللوكسمبورغ، حيث يبدو الجنس البشري أقل عددا وأكثر حرية ثمة من يركض. ليس لأنه مستعجل . وإنما لأنه يحب الركض..
كونديرا الذي اعتزل الكتابة في يونيو الماضي كان قد افتتح هذا العام في تشيكيا مكتبة تحوي كل ما كتب عن ميلان كونديرا وكل كتبه بكل اللغات التي ترجمت إليها الأعمال بمناسبة عيد ميلاده الـ94.
كما أنه يحيط نفسه بغموض شديد فعدد المقابلات التي أجريت معه لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، إيماناً بفكرة قتل المؤلف ..صدر عام 2021 كتاب البحث عن ميلان كونديرا للصحافية أريان شومين التي تتبع خطوات الروائي منذ ميلاده حتى الآن، عبر أرشيف المخابرات التشيكية الشيوعية التي راقبت كونديرا على مدى عشر سنوات بين 1969 و1979 ، تقول في الكتاب أن أصحاب المعاطف الرمادية. رجال المخابرات دونوا سيرة مذهلة لكونديرا إذ جمعوا تقارير بلغ حجمها 2374 صفحة، ما زالت إلى الآن أسيرة الأرشيف
..كونديرا احد امهر الساردين والكتاب في العالم في كتابة الرواية،ان لم يكن الى جانب بول اوستر من امهر من كتب الرواية العالمية،كما نظر لها كونديرا بوعي، وشغف قراءات ما يتعلق بتاريخ الرواية العالمية،صاحب منجز سردي ايقوني التأثير،رغم اشكالات وتقاطعات رؤيته وموقفه من مترجمي اعماله..هو الذي لم يطمئن الى مترجم قط ولم يعثر على مترجمه الذي يليق بأعماله سوى في ايامه الأخيرة،كما صرح بذلك في حوار له بحضوره وابداعه العابر للقارات،وصاحب كتاب( فن الرواية وروايات ) ( الخلود) و (المزحة)و(كائن لاتحتمل خفته)و(الهوية)و( البط ء) و(فالس الوداع ) وغيرها . استطاع أن يترك بصمته الفريدة في فن السرد الحديث والنظرية السردية. ويمكن القول.. كان كونديرا يجعل من القارئ بطلا إضافيا في روايته، الأمر الذي يجعلك تقرأ ما يكتبه لمرات كثيرة دون ملل، ربما لأن أفكاره ولغته الأدبية تدخلك عالمه مع شخصيات روايته من باب البطولة، وتجعلك حاضرا في كل المشاهد كأنك تشاهد ما تقرأه بكل مهارة. رحل عن عمر ناهز 94 عاما
كان يشعر أنه عجوز وأن لا رغبة له في شيء آخر عدا قليل من الطمأنينة والسلام لعل هذه العبارة على لسان إحدى شخصياته، جسدت الهزيع الأخير من حياة أشهر أديب أنجبته جمهورية التشيك في تاريخها الحديث.
وغاب كونديرا الثلاثاء، في مساء صيفي هادئ قبل أن يطفئ شمعة ميلاده الخامسة والتسعين، محبذا قضاء آخر أيام حياته في باريس التي عاش فيها ما يربو على خمسة عقود دون أن يعود إلى براغ، وينتعش بحريه ربيعها الذي خلد أحداثه في أجمل رواياته على الإطلاق (كائن لا تحتمل خفته)
كونديرا عاش خمسة عقود في باريس وقضى آخر أيامه فيهاوفي عام 1975 قرر شد الرحال إلى فرنسا بعدما تعرض للاضطهاد بسبب انتقاده للغزو السوفيتي لما كانت تعرف جمهورية تشيكوسلوفاكيا.
من المعروف، إن الكاتب التشيكي انتقل إلى باريس في عام 1975، فقد ولد في 1 أبريل 1929 في برنو، تشيكوسلوفاكيا، لأب موسيقي وعازف بيانو، وكان الروائي شاعرا في البداية لكن انتقاله إلى عام الرواية الرحب جعله يخلط بين حياته ككاتب وبين الأدب ولم يكتف بذلك بل اشتبك مع تاريخ القرن الذي شهد انهيار الشيوعية بعد أن سيطرت على ضمائر جزء كبير من المثقفين الأوروبيين.
وقد عاش الشيوعية الستالينية بكل ما فيها من دراما والتي قررت مسار حياته وخياراته لاحقا سواء السياسية أو اللغوية. كان شيوعيا متحمسا منذ سن الـ 18 عاما عندما انضم إلى الحزب الشيوعي بعد أن تولى السلطة في تشيكوسلوفاكيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكنه سرعان ما أدرك ميلان كونديرا بسرعة ما فيها من التباسات وغموض إذ كانت مثل السيف الأيديولوجي المسلّط على ضمائر الكتّاب والمثقفين من خلال إجبارهم على الكتابة بلغة ميتة في ظل نظام استبدادي حسب آراء عدد كبير من الكتّاب والمؤلفين سواء من المنتمين إلى الحزب أو غير المنتمين…
ويبدو أن هناك علاقة حب قاسية بقيت بين الروائي المخضرم ووطنه الأم إلى آخر لحظات حياته حيث فضل أن يستمر في منفاه الاختياري دون أن يقرر الرجعة. وبحسب وكالة (رويترز) فإن كونديرا نادرا ما كان يقبل بإجراء أحاديث إعلامية، جازما أن الروائيين يجب أن يتحدثوا من خلال أعمالهم فقط. وفي حديثه عام 1980 إلى صحيفة نيويورك تايمز أعرب كونديرا عن أسفه لأنه الرواية ليس لها مكان في العالم قائلا: العالم الشمولي..سواء تأسس على ماركس أو الإسلام أو أي شيء آخر ، هو عالم من الإجابات وليس أسئلة..وتابع: يبدو لي أن الناس في جميع أنحاء العالم في الوقت الحاضر يفضلون الحكم بدلامن الفهم، وطرح الإجابات بدلاً من إلقاء الأسئلة ، بحيث يصعب سماع صوت الرواية مقارنة مع ضجيح حماقة اليقين البشري الصاخب:. رحل وفي قلبه غصة كبيرة تمثلت في عدم فوزه بجائزة نوبل التي رشح إليها طوال سنوات.. ميلان كونديرا لم يكن روائيا فحسب بل كان منظرا كبيرا في الأدب وموسيقيا تعلم الموسيقا منذ صغره.
خسرته نوبل وربحه القارئ.