” آثار دمك على الثلج ” قصة غابريل غارسيا ماركيز

ترجمة علي سالم عن الإنجليزية عن مجموعة Strange Pilgrims الصادرة عن دار Jonathan Cape London 1993

المترجم علي سالم

تدوين نيوز – خاص 

آثار دمك على الثلج

عندما وصلا الحدود في الليل، لاحظت نينا داكونتي بأن إصبعها الذي كانت تلبس فية خاتم الزواج كان ما يزال ينزف، وذلك عندما أخذ شرطي الحدود الذي كان يغطي قبعته الثلاثية الأطراف المصنوعة من الجلد الصقيل ببطانية من الصوف الخشن يدقق بجوازيهما على ضوء مصباح كاربيد، محاولاً الاحتفاظ بتوازنه بوجه الريح القارسة الهابة من جبال البرانس. ورغم دقة الجوازين الدبلوماسيين، فقد رفع حرس الحدود المصباح ليتأكد من تطابق الصور مع وجهيهما. كانت نينا داكونتي تبدو أشبه بطفلة لها عينا طائر سعيد، وجلد خلاسي لاتزال تشع منه شمس الكاريبي في حنايا ظلام يناير الجنائزي. وكانت تتلفع حتى ذقنها بمعطف من فرو المنك كان ثمنه يفوق رواتب جميع أفراد الحامية الحدودية التي كانوا يتقاضونها لمدة عام كامل. أما زوجها بيلي سانشيز دي أفيلا، الذي كان يقود السيارة والذي يصغرها بعام واحد، ولايقل عنها بها ءاً ووسامة فقد كان يرتدي سترة مقصبة وقبعة بايسبول، وكان على العكس من زوجته، طويل القامة وذو جسم رياضي وفك حديدي يشبه فك بلطجي رعديد. أما الشيء الذي كان يعبر عن شخصيتيهما أحسن تعبير هو سيارتهما الفضية اللون التي كانت دواخلها تشهق بأنفاس حيوان حقيقي؛ والتي لم تشهد شوارع الحدود البائسة مثيلاً لها من قبل. كان مقعدها الخلفي يغطس تحت ركام من الحقائب الكبيرة الجديدة تماماً وعلب الهدايا التي لم تُفتَح بعد، وآلة الساكسفون التي تملكت قلب نينا داكونتي بلا منازع قبل أن تستسلم لحب ذلك المشاكس الذي زلزل كيانها على الساحل. عندما أعاد الحارس جوازي السفر المختومين، سأله بيلي سانشيز أين يمكن العثور على صيدلية لعلاج إصبع زوجته. وصاح الحارس مغالباً الريح بأن عليهما السؤال في هينداي، على الجانب الفرنسي. وفي هينداي وجدا حراس الحدود يجلسون بقمصانهم القصيرة الأكمام، يلعبون الورق على طاولة داخل صندوق الحراسة الزجاجي الجيد التدفئة والإضاءة، ويتناولون خبزاً يغمسونه في كؤوس نبيذ كبيرة. وأكتفوا فقط بالنظر الى حجم السيارة ونوعها للسماح لهما بدخول فرنسا. وضغط بيلي سانشيز على جهاز التنبيه عدة مرات، لكن الحراس لم يفهموا إنه كان يناديهم، ففتح أحدهم النافذة وصرخ بصوت أعنف من العاصفة:

“Merde! Allez-vous-en! “

اللعنة! قلت لكما أدخلا!

هنا خرجت نينا داكونتي، الملفعة بمعطفها حتى الأذنين، من السيارة وسألت الحارس بفرنسية طليقة أين يمكن العثور على صيدلية. وكما لو أن الأمر كان عادة مترسخة لديه، أجاب الحارس من خلال فمه المليء بالخبز إن الأمر لا يعنيه، خصوصاً في جو عاصف مثل هذا، ثم أغلق النافذة. لكنه أخذ ينظر بإهتمام متزايد الى الفتاة الملفعة ببريق فراء المنك الطبيعي التي كانت تمص إصبعها الجريح، وتبدل مزاجه في الحال، لأنه لابد أن يكون قد حسبها طيفاً من عالم السحر قد خرج اليه ليكلمه في هذه الليلة المخيفة. فأوضح لها بأن أقرب مدينة هي مدينة بياريتز، لكن في عز الشتاء، وفي هذه الريح العاوية كالذئاب، قد لايجدون صيدلية مفتوحة حتى مدينة بايون، الأبعد قليلاً من بياريتز.

“هل الجرح خطير؟ “

” إنه لا شيء “. قالت نينا داكونتي مبتسمة وأرته أصبعها الذي كان يحمل خاتم الماس وطرفه المخدوش بزهرة خدشاً طفيفاً لا يكاد يبين. ” لقد كانت مجرد شوكة “.

قبل أن يصلا بايون، بدأ الثلج بالهطول ثانية. ولم تكن الساعة قد تجاوزت السابعة، لكنهما وجدا الشوارع مهجورة والبيوت موصدة بسبب العاصفة الهوجاء، وبعد أن لفا بالسيارة عدة شوارع دون أن يعثرا على صيدلية، قررا مواصلة السير. وجلب هذا القرار السعادة الى قلب بيلي سانشيز، لأنه كان مولع جداً بالسيارات النادرة التي كان يغدقها عليه والده الذي كان يعاني كثيراً من عقدة الشعور بالذنب والذي كانت أمواله الطائلة تمنحه الفرصة لإشباع نزوات إبنه، فضلاً عن إنها المرة الأولى التي كان بيلي يقود فيها سيارة من نوع بينتلي مكشوفة قُدمت له كهدية في يوم زواجه. كانت نشوته وهو يمسك بمقود السيارة كبيرة الى الحد الذي كان ينسيه الشعور بالتعب كلما واصل القيادة. كانا يريد الوصول الى بوردو تلك الليلة، حيث قاما بحجز جناح للعرائس في فندق (سبلندد)، ولن تستطيع كل الرياح العاتية والثلوج التي في السماء منعه من الوصول الى هدفه. على النقيض منه، كانت نينا داكونتي مرهقة، خصوصاً بسبب المرحلة الأخيرة من الطريق السريع الصاعد من مدريد، الذي كان يلاصق حافة أحد المنحدرات الصالحة لعيش الماعز الجبلي والتي تجلدها عواصف البَرَدْ على الدوام. بعد بايون لفّت حول إصبعها الذي يحمل الخاتم منديلاً، وراحت تضغطه لإيقاف الدم الذي لم يكف عن الجريان، ثم غرقت في نوم عميق. ولم يلاحظ بيلي سانشيز شيئاً إلاّ بعد منتصف الليل بقليل، عندما توقف الثلج عن الهطول وسكنت الريح عن العويل فجأة وسط أشجار الصنوبر وامتلأت سماء المراعي بالنجوم الجليدية. كان قد اجتاز أضواء بوردو الناعسة ولم يتوقف إلا مرة واحدة لمليء خزان الوقود من أحد المحطات الموجودة على الطريق، لأنه كان لايزال قادراً على القيادة حتى باريس. كان مبتهجاً جداً بلعبته الكبيرة التي يبلغ ثمنها خمسة وعشرون ألف جنيهاً إسترلينياً، بحيث إنه لم يسأل نفسه إن كانت تلك المخلوقة البهية الراقدة الى جانبه – والتي تلف إصبعها الذي يحمل خاتم زواجهما بمنديل يقطر دماً والتي خرمت حلم مراهقتها عدة مرات ومضات خاطفة من عدم اليقين – تحس بنفس الشعور.

لقد تزوجا قبل ثلاثة أيام في مكان يبعد الآن مسافة عشرة آلاف كيلومتر، في كارتاجينا دي إندياس، لدهشة أبويه وخيبة أمل أبويها، وبمباركة المطران الشخصية. ولا أحد سواهما كان يفهم الأساس الحقيقي لذلك الحب أو جذوره الخفية. لقد ابتدأت قصة حبهما منذ ثلاثة شهور قبل الزواج، في يوم أحد على البحر، وذلك عندما اقتحمت عصابة بيلي سانشيز كابينات تبديل الثياب الخاصة بالنساء على شواطئ ماربيلا. كانت نينا قد بلغت الثامنة عشرة للتو؛ وكانت قد عادت الى بيتها من مدرسة شاتلني في سان- بليز، في سويسرا ، بأربعة لغات دون لكنة، وبمعرفة بارعة على عزف آلة الساكسفون ، وكان ذلك أول يوم أحد تخرج به الى الشاطئ منذ عودتها . كانت قد تعرت تماماً وكانت تهم بارتداء بذلة سباحتها عندما سمعت صرخات الفرار المفزوعة وصيحات القراصنة تنطلق من الكابينات المجاورة، لكنها لم تفهم ما كان يجري حتى تهشم مزلاج بابها وشاهدت أجمل صعلوك يمكن للخيال تصوره يقف أمامها. لم يكن يرتدي شيئاً غير بنطال قصير من جلد الفهد الصناعي، يستر به جسده المسالم، اللدن المكتسي بلون القاطنين قرب المحيط. كان يرتدي سواراً معدنياً في عضده الأيمن، ويلف حول قبضته سلسلة حديدية كان يستخدمها كسلاح قاتل، وعلى صدره تتدلى ميدالية لا صورة لأي قديس فيها، كانت تنبض بصمت مع دقات قلبه. كانا قد درسا في نفس المدرسة الابتدائية ومزقا الكثير من أكياس حلوى البيناتا في نفس حفلات أعياد ميلادهما، لأن كلاهما كان يتحدر من عوائل الأقاليم التي كانت تتحكم بمصير المدينة كما يحلو لها منذ العهد الكولونيالي، لكنهما لم يريا بعضهما لسنين طويلة، لذلك لم يتعرفا على بعضهما للوهلة الأولى.

ظلت نينا داكونتي واقفة، بلا حراك، ولم تفعل أي شيء لتغطية عُريها الصارخ. ثم شرع بيلي سانشيز بأداء طقسه الصبياني. فقام بإنزال سرواله المصنوع من جلد الفهد وأراها فحولته المنتصبة الجديرة بالتقدير. نظرت الى شيئه نظرة مباشرة لكنها لم تبد أي علامة على الاندهاش وقالت محاولة للسيطرة على خوفها لقد رأيت ماهو أكبر من ذلك وأشد صلابة، لذلك أدعوك مجدداً الى التفكير فيما تفعل، لأن أدائك معي ينبغي أن يكون أفضل من أداء زنجي.

في الواقع لم تكن نينا داكونتي عذراء فقط، بل إنها لم تشاهد في حياتها رجلاً عارياً حتى تلك اللحظة، مع ذلك أثبت تحديها له جدواه، إذ قام بيلي سانشيز بتوجيه لكمة الى الجدار بقبضته الملفوفة بالسلسلة الحديدية أدت الى كسر يده. فأخذته بالسيارة الى المستشفى وأعتنت به طوال فترة نقاهته، وفي النهاية تعلما كيف يمارسان الحب على وجهه الصحيح. وأخذا يقضيان أصائل حزيران الصعبة في الشرفة الداخلية للمنزل الذي قضى فيه ستة أجيال من أسلاف نينا داكونتي اللامعين نحبهم. كانت تعزف له الأغاني الشعبية على الساكسفون، وهو مضطجع على الأرجوحة الشبكية، ويده في الجبيرة، متأملاً إياها بذهول مؤلم. كان البيت يحتوي على عدد لا يحصى من النوافذ التي ترتفع من الأرض الى السقف وتواجه الخليج ومياهه الراكدة النتة، وكان يُعد من أكبر البيوت وأقدمها في مقاطعة لامانغا، وبلا شك أقبحها. لكن شرفته ذات البلاط المتعاكس التي كانت نينا داكونتي تعزف فيها الساكسفون كانت بمثابة واحة باردة في قيظ الساعة الرابعة. وكانت تطل على فناء كثيف الظلال مزروع بأشجار المانغو والموز التي كان يستكين تحتها قبر ممسوح الشاهدة، أقدم من المنزل ومن ذاكرة العائلة. كان عزف الساكسفون يمثل حتى لأولئك الذين لايفقهون شيئاً من الموسيقى مفارقة تاريخية في بيت عريق كهذا. (إن صوته يشبه صوت سفينة مغادرة) قالت جدة نينا داكونتي عندما سمعته للمرة الأولى. أما أم نينا داكونتي فقد حاولت عبثاً أن تقنعها بالعزف عليه بطريقة أخرى، غير طريقتها التي كانت تعزف بها رافعة تنورتها فوق فخذيها وفارجة ركبتيها بطريقة حسية لا علاقة لها بالموسيقى لا من بعيد ولا من قريب، إنما بحجة الراحة. كانت أمها تقول لها ” لا يهمني على أي آلة تعزفين، طالما حافظت على ساقيك مضمومتين. “

لكن *أصوات السفينة المغادرة * واحتفالية الحب تلكما كانا الشيئان الوحيدان المتاحان لنينا داكونتي لكسر القوقعة المرة التي كانت تحيط ببيلي سانشيز.

كان بيلي سانشيز معروفاً للجميع كشخص متوحش وجاهل، لكن تحت ستار هذه السمعة البائسة التي حافظ عليها بنجاح كبير بسبب اقتران إسمه باسمين لامعين من أسماء عائلته، كان يرقد بيلي اليتيم، الخائف. وفي الفترة التي شرعت فيها عظام يده تلتئم، أخذا يتعرفان على بعضهما البعض بشكل جيد جداً، حتى هو نفسه كان مندهشاً من الإنسيابية التي تدفق بها الحب حين قادته عندما خلا البيت في يوم ماطر الى فراش عذريتها، حيث أخذا يحتفلان كل يوم، وفي نفس الساعة بحبهما وعريهما، تحت نظرات الدهشة المنبعثة من لوحات محاربي الحرب الأهلية وحملقات الجدات النهمات اللواتي سبقنهما في إرتياد فردوس ذلك السرير التاريخي. كانا يظلان عاريين حتى في فترات الاستراحة التي تلي ممارسة الحب، دون أن يغلقا النوافذ التي كانت تحمل لهما من الميناء نسيم الهواء المحمل بعطن نفايات البواخر، الفائحة برائحة البراز، ويصغيان عندما يصمت الساكسفون الى همهمة الحياة اليومية الصاعدة من الفناء، والى نقّة وحيدة لضفدع مختبئ تحت أشجار الموز، والى صوت قطرات الماء النازلة على أحد القبور ، والى الحركة الطبيعية للحياة التي لم تسنح لهما الفرصة في سماعها من قبل. عندما عاد أبويها الى البيت، كانت نينا داكونتي وبيلي سانشيز قد تدلها في حب بعضهما البعض، بحيث لم يعد في العالم متسع لأي شيء سوى حبهما، وكانا يمارسان الحب في أي وقت، وأي مكان، محاولان في كل مرة إعادة إكتشافه من جديد. في البداية وجدا بعض المشقة في ممارسة الحب داخل السيارات الرياضية التي كان والد بيلي سانشيز يحاول من خلال شرائها لأبنه التخفيف من حدة مشاعره الخاصة بالذنب. ثم أخذا، بعد أن أصبح موضوع السيارات سهلاً جداً، يخرجان في الليل الى كابينات ماربيلا المهجورة، التي جمعهما القدر فيها يوماً، وخلال احتفالات نوفمبر بلغ بهما الجنون حداً الى الذهاب بثياب الاحتفال الى غرف الإيجار الموجودة في حي العبيد القديم في غيستماني، تحت حماية مديرات النزل اللواتي كن قبل شهور قليلة فقط يعانين الأمرين من بيلي سانشيز وعصابته الملوحة بالسلاسل. منحت نينا داكونتي نفسها لهذا الحب السري بنفس العاطفة المحمومة التي كانت تغدقها على الساكسفون، حتى فهم لصها المروض أخيراً ما كانت تعني عندما قالت له بأن علية الإنجاز مثل زنجي. وكان بيلي سانشيز يرد على حبها بنفس المهارة ونفس الحماس. وعندما تزوجا، حققا العهد الذي قطعاه على نفسيهما بممارسة الحب فوق الأطلسي، حينما نامت المضيفات وحشرا نفسيهما داخل مرحاض الطائرة، ليغلبهما الضحك، أكثر مما غلبتهما اللذة. وعرفا بعد مرور أربعة وعشرين ساعة على الزواج فقط بأن نينا داكونتي كانت حاملاً بشهرها الثاني.

وهكذا عندما وصلا مدريد كانا أبعد ما يكونا عن عاشقين متخمان حباً، لأنهما كانا يملكان شيء من التعقل للتصرف كشخصين تزوجا حديثاً. رتبت عائلتيهما كل شيء. وقبل مغادرتهما للطائرة حضر ضابط تشريفات الى كابينة الدرجة الأولى ليسلم نينا داكونتي معطف الفراء ذو الحافة السوداء اللامعة كهدية زواج من والديها. وأعطى بيلي سانشيز آخر صرعة من صرعات ستر شيرلنغ الصوفية لذلك الشتاء، ومفاتيح غير معلّمة لسيارة كانت تنتظره على أرض المطار كمفاجأة.

رحبت بهما البعثة الدبلوماسية التابعة لبلدهما في قاعة الاستقبال الرسمية. ولم يكن السفير وزوجته أصدقاء قدامى فقط لكلا العائلتين، بل كان السفير نفسه هو الطبيب الذي أشرف على ولادة نينا داكونتي، وكان يقف في انتظارها حاملاً باقة من الورد بدت رائقة ويانعة تماماً حتى قطرات الندى التي كانت تغطيها بدت وكأنها قطرات اصطناعية. حيتهما معاً بقبلات زائفة، وهي تشعر بعدم الارتياح من حالتها الجديدة التي دخلت فيها قبل الأوان نوعا ما كعروس، ثم تقبلت منهما باقة الزهر. عندما أخذت الزهور وخزت إصبعها شوكة، لكنها دارت الحادث بحيلة ساحرة. وقالت لقد فعلت ذلك عامدة، لكي تنتبهوا لخاتمي.

وفي الواقع تعجب كامل أفراد الطاقم الدبلوماسي من روعة الخاتم، لأنه لابد أن يكون قد كلف ثروة، ليس بسبب نوعية الماسات التي كان يحملها، بل بسبب عراقته المحفوظة جيداً. لكن لا أحدا منهم لاحظ بأن أصبعها كان قد شرع ينزف، لأن اهتمامهم جميعاً كان منصباً على السيارة الجديدة التي أوحت للسفير بفكرة طريفة تتمثل بجلبها الى المطار وتغليفها بالسيلوفان وربطها بشريط ذهبي عملاق. ولم يلاحظ بيلي سانشيز هذه اللمسة المبدعة، لأنه كان متلهفاً جداً لرؤية السيارة التي شرع في الحال بتمزيق غلافها ووقف أمامها مبهور الأنفاس. لقد كانت سيارة من نوع بينتلي كابريليه موديل ذلك العام، ومقاعدها منجدة بجلد حقيقي. في ذلك الحين بدت السماء مثل دثار من الرماد، وكانت ثمة ريح جليدية قارصة تهب من جبال غواداراما، ولم يكن الوقت مناسباً للبقاء في الخارج، لكن بيلي سانشيز لم تكن لديه أدنى فكرة عن البرد ، فجعل البعثة الدبلوماسية تقف في موقف السيارات المكشوف، دون أن يدري إنهم كانوا يتجمدون من البرد لمجاملته، حتى أنتهى من تفحص أصغر تفاصيل السيارة. وعندما أنتهى من ذلك جلس السفير الى جانبه ليدله على مكان الإقامة الرسمي، الذي أعدت فيه حفلة عشاء. وفي الطريق أخذ يشير له لتعريفه بمعالم المدينة الأكثر شهرة، لكن بيلي سانشيز كان كما يبدو مأخوذاً بسحر السيارة الجديدة.

لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يسافر فيها خارج البلاد، بعد أن قضى حياته طالباً في المدارس الخاصة والعامة، معيداً نفس الدورات الدراسية مرات ومرات، حتى أنتهى به المطاف معلقاً داخل حالة من اللامبالاة. وكانت رؤيته الأولى لمدينة أخرى غير مدينته، وبنايات المنازل الرمادية ذات الأنوار المضاءة في رابعة النهار، والشوارع المهجورة، والبحر النائي، كل ذلك زاد من إحساسه بالوحشة التي كان يجاهد في سبيل الاحتفاظ بها في زاوية خفية من قلبه. لكنه مع ذلك سقط سريعاً، دون وعي منه، في أول فخ نصبه له النسيان. وانفجرت عاصفة صامتة، مباغتة، من بواكير الموسم، في الأعالي، وعندما غادرا منزل السفير بعد العشاء واتجها الى فرنسا، وجدا المدينة مغطاة بثلج واهج. ثم نسى السيارة، وراح يصيح فرحاً أمام أنظار الجميع، ويهيل حفنات من الثلج على رأسه، ويتمرغ به، بمعطفه الجديد، وسط الشارع.

لم تلاحظ نينا داكونتي نزيف إصبعها إلا بعد أن غادرا مدريد في ظهيرة أحالتها العاصفة الى ستار شفاف من الضباب. لقد أدهشها الأمر، لأنها عندما صاحبت زوجة السفير المولعة بغناء الألحان الإيطالية بعد المآدب الرسمية، بالعزف على الساكسفون، لم يسبب لها بنصرها أي إزعاج. لكن لاحقاً، عندما كانت تدل زوجها على أقصر الطرق المؤدية الى الحدود، شرعت تمص إصبعها بطريقة لا واعية كلما نزف، والمرة الأولى التي فكرت فيها بالعثور على صيدلية كانت عندما وصلا جبال البرانس. ثم استسلمت لأحلام الأيام القليلة الماضية التي فات أوانها، وفزّت جفلة على انطباع كابوسي بأن السيارة كانت تسير خلال الماء، ولم تتذكر المنديل الملفوف حول إصبعها إلا بعد مرور وقت طويل. وشاهدت في الساعة المضاءة في لوحة القيادة إن الوقت قد تجاوز الثالثة، وبعد أن حسبت الأمر في ذهنها، أدركت عندها إنهما قد تجاوزا مدينة بوردو، وأنگولَيم وپواتييه كذلك، وإنهما كانا يسيران بمحاذاة حاجز نهر لواغ المغمور بمياه الفيضان. كان نور القمر يتسرب من خلال الضباب، وكانت الصور الظلية للقلاع تبدو عبر أشجار الصنوبر وكأنها منبعثة من داخل حكايات الجن. وقدرت نينا داكونتي التي تعرف المنطقة عن ظهر قلب، بأنهما كانا على مبعدة ثلاث ساعات من باريس، وكان بيلي سانشيز منكباً على القيادة ببسالة.

(أنت رجل متوحش)، قالت. (لقد مضى عليك أكثر من إحدى عشرة ساعة وأنت تقود السيارة، دون أن تتناول شيئاً من الطعام)

كانت نشوة السيارة الجديدة قد أمدته بطاقة عجيبة على الاستمرار في القيادة. لم يكن قد نام كثيراً في الطائرة، لكنه كان صاحياً تماماً ومصمماً على دخول باريس قبل الفجر.

(لازلت متخماً من عشاء السفارة)، قال. ثم أضاف دون منطق واضح، (على أي حال، أنهم يغادرون السينما في کارتاگینا الآن، لابد أن تكون الساعة تقارب العاشرة.)

رغم ذلك، كانت نينا داكونتي تخشى عليه من النوم أثناء السياقة. ففتحت واحدة من الهدايا العديدة التي قُدمت لهما في مدريد وحاولت دس قطعة من البرتقال المطعم بالحلوى في فمه. لكنه أشاح براسه بعيداً.

(الرجال الحقيقيون لا يأكلون الحلوى) قال.

أنقشع الضباب قبل وصولهما الى أورلينز بقليل، وأضاء قمر كبير جداً الحقول المغطاة بالثلج، لكن حركة المركبات على الطريق أصبحت أشد صعوبة بسبب ظهور شاحنات نقل المنتجات وتناكر النبيذ الضخمة على الطريق السريع الذاهب الى باريس. كانت نينا داكونتي ترغب بمساعدة زوجها في السياقة، لكنها لم تجرؤ حتى على مجرد اقتراح ذلك، لأنه كان قد أخبرها في أول ليلة خرجا فيها معاً، بأن ليس هناك ماهو أكثر إذلالاً للرجل من أن يُساق بسيارة تقودها زوجته. شعرت بالصفاء بعد خمس ساعات تقريباً من النوم العميق، وارتاحت أيضاً لعدم توقفهما للمبيت في فندق من فنادق الأرياف الفرنسية، التي تعرفها منذ أن كانت طفلة صغيرة من خلال سفراتها العديدة الى هناك مع والديها.

قالت أنه أجمل ريف في العالم لكنك قد تموت عطشاً ولا تجد من يمنحك شربة ماء واحدة دون مقابل، كانت مقتنعة بذلك تماماً، حتى أنها قامت في آخر لحظة بوضع قالب صابون ولفة من ورق التواليت في حقيبة سفرها الصغيرة، لأن الفنادق الفرنسية لاتحتوي البتة على صابون، وورق التواليتات ليس سوى جرائد الأسبوع المنصرم، مقصوصة على شكل مربعات صغيرة معلقة بمسمار. الشيء الوحيد الذي ندمت عليه تلك اللحظة هو إضاعة ليلة كاملة دون ممارسة الحب. وكان رد زوجها عاجلاً، إذ قال لقد فكرت للتو كم ستكون مضاجعتك رائعة في الثلج، هاهنا، إن أحببت.

وفكرت نينا داكونتي بالموضوع بجدية. فقد بدا الثلج المُتألق بالقمر على حافة الطريق السريع وثيراً ودافئاً، لكن عندما اقتربا من ضواحي باريس زادت شدة الزحام على الطريق، وكان ثمة عناقيد من المصانع المضاءة وجموع غفيرة من العمال على ظهور الدراجات الهوائية. ولو لم يكن الفصل شتاءاً لكانا الآن في رابعة النهار.

قالت نينا داكونتي (من الأفضل أن ننتظر حتى الوصول الى باريس، حيث سيكون كل شيء نظيفاً ودافئاً وفوق شراشف نظيفة، يليق بنا كزوجين.)

قال (إنها المرة الأولى التي أتعرض فيها للخذلان.)

أجابت (بالطبع، لأنها المرة الأولى التي نتزوج فيها.)

قبل الفجر بقليل غسلا وجهيهما وتبولا في مطعم على الطريق، وتناولا قهوة وكرواسون * ساخن، على الكاونتر، حيث كان سواق الشاحنات يتناولون النبيذ الأحمر مع الفطور. وفي الحمام شاهدت نينا داكونتي بقع من الدم على بلوزتها وتنورتها، لكنها لم تحاول غسلها. ورمت منديلها المخضل بالدم في سلة القمامة، ونقلت خاتم زواجها الى يدها اليسرى، وشطفت إصبعها الجريح بالماء والصابون. كان الخدش صغيراً لايكاد يُرى. ورغم ذلك ما أن عادا الى السيارة حتى بدأ النزف ثانية، فعلقت نينا داكونتي يدها خارج النافذة، ليقينها بأن الهواء الجليدي الهاب من الحقول له خواص شفائية. ولم يثبت هذا التكتيك جدواه أبداً، لكنها لم تكترث، وقالت بسحرها الطبيعي المعهود ” لوفكر أحدهم بإقتفاء آثارنا، فستكون مهمته في غاية السهولة، لأن ما عليه حينئذ سوى أن يتتبع آثار الدماء الموجودة على الثلج “. ثم فكرت قليلاً بماقالته وتورد وجهها بأول أشعة من نور الفجر، وقالت، ” تخيل إن هناك خيط من الدم على الثلج من مدريد الى باريس، ألا يصلح ذلك موضوعاً لأغنية جميلة؟”

لكن لم يكن لديها وقت للتفكير ثانية، لأن إصبعها أخذ عندما وصلا ضواحي باريس ينزف بشكل جنوني، وشعرت كما لو أن روحها كانت تُستَل من بين جوانحها عبر ذلك الخدش الصغير. وحاولت إيقاف تدفق الدم باستخدام ورق التواليت الذي كانت تحمله في حقيبتها، لكن تضميد إصبعها كان يستغرق وقتاً أطول من وقت رمي شرائط الورق الدامية من النافذة. الثياب التي كانت ترتديها، معطفها، ومقاعد السيارة تخضلت بالدم، الذي كان يجري ببطء لكن دون توقف. وشعر بيلي سانشيز بالذعر حقاً وأصر على البحث عن صيدلية، لكنها أدركت أن الأمر قد تجاوز قدرات الصيادلة الآن.

قالت ” نحن في بورت دورلينز تقريباً، واصل المسير على طول جادة أفينيو جينيرال لوكريك، الجادة الكبيرة المحفوفة بالأشجار، وبعد ذلك سأخبرك بما ستفعل.”

لقد وصلا الى أصعب مرحلة من الرحلة، وذلك بسبب توقف المرور من الجانبين على جادة أفينيو جينيرال لوكريك، التي كانت محتقنة بعقدة جهنمية من السيارات الصغيرة والدراجات النارية والشاحنات الكبيرة التي كانت تحاول الوصول الى الأسواق في مركز المدينة. وأثارت أصوات منبهات السيارات التي كانت تُطلق في الهواء دون جدوى حفيظة بيلي سانشيز، فأنطلق يوزع الشتائم واللعنات بلغة سوقية على عدد من السواق، حتى انه حاول الخروج من السيارة لضرب أحدهم، لكن نينا داكونتي نجحت في إقناعه بأن الفرنسيين لا يتعاركون بالأيدي، رغم كونهم أكثر شعوب الأرض وقاحة. وأثبتت للمرة الثانية رجاحة عقلها، لأنها كانت في تلك اللحظة بالذات تحاول جاهدة ألا تفقد الوعي.

وصلا الى دوّار ليون دو بلفور الذي كانت مقاهيه ومخازنه مضاءة كما لو أن الوقت كان منتصف الليل، لكن اليوم لم يكن غير يوم ثلاثاء عادي في يناير باريسي غائم وقذر ذو أمطار دائمة الهطول لكنها لاتفلح أبداً في التحول الى ثلوج. كان الزحام أقل حدة في جادة دينفيرت – روشيرو، وبعد اجتياز عدد من البنايات القليلة طلبت نينا داكونتي من زوجها أن ينحرف الى اليمين، فانحرف وأوقف السيارة خارج مدخل بناية الطوارئ التابعة لمستشفى ضخم وكئيب المنظر.

ساعدوها في الخروج من السيارة، لكنها لم تفقد شيئاً من رباطة جأشها وصحوها، وبينما كانت تتمدد على نقالة ذات عجلات بانتظار الطبيب الخفر ، مجيبة على أسئلة الممرضة الروتينية المتعلقة بهويتها وتاريخها الصحي، حمل بيلي سانشيز حقيبتها وأمسك بيدها التي كانت تحمل فيها خاتم الزواج؛ وشعر بأن يدها كانت واهنة وباردة وبأن شفتيها قد شحُب لونهما. وظل على تلك الحال واقفاً جنبها ومطوقاً يدها بيده، حتى وصل الطبيب وأجرى فحصاً سريعاً لأصبعها الجريح. كان الطبيب شاباً في مقتبل العمر، حليق الرأس وله لون نحاسي. ولم تعر له نينا داكونتي أي اهتمام، وخصت زوجها بابتسامة شاحبة، وقالت بروحها المرحة الخفية ” لا تخف، الشيء الوحيد الممكن حدوثه هو أن يقوم آكل لحوم البشر هذا بقطع ذراعي والتهامها.”

أنهى الطبيب فحصه، ثم أدهشهما عندما أخذ يتحدث بإسبانية فصيحة جداً، ذات لكنة آسيوية، قائلاً: “كلا، يا أبنائي، يفضل آكل لحوم البشر هذا الموت جوعاً على قطع هذه اليد الجميلة.”

شعرا بالحرج، لكن الطبيب هدأ من روعيهما بحركة من يده دلت على دماثة أخلاقه. ثم طلب أن تُدفع النقالة ذات العجلات، فحاول بيلي سانشيز اللحاق بهما وهو ممسك بيد زوجته، لكن الطبيب أمسك بذراعه وأوقفه قائلاً:

“ليس أنت، إنها ذاهبة الى العناية المركزة.” ابتسمت نينا داكونتي لزوجها، وواصلت التلويح له بيدها تلويحه الوداع حتى اختفت عن الأنظار في نهاية الردهة. ولبث الطبيب في مكانه، دارساً المعلومات التي سجلتها الممرضة على لوحة بيانات محمولة، فناداه بيلي شانشيز قائلاً: ” دكتور، إنها حامل.”

” منذ متى؟ “

“منذ شهرين. “

ولم يعر الطبيب هذ÷ المعلومة الكثير من الأهمية كما توقع بيلي سانشيز وقال” حسناً فعلت بإعلامي بذلك” ثم أخذ يسير خلف السرير النقال، تاركاً بيلي سانشيز واقفاً في الغرفة المحزنة التي تعط برائحة عرق المرضى، وحيداً وحائراً ولايدري ماذا يفعل وهو يبعث بنظراته على طول الرواق الخالي الذي اختفت خلفه نينا داكونتي. ثم جلس على المصطبة الخشبية التي كان ينتظر عليها أناس آخرون. ولم يعلم كم من الوقت جلس هناك، لكنه عندما قرر الخروج من المستشفى وجد أن الليل قد حل والسماء لاتزال تمطر، فشعر بنفسه منسحقاً تحت ثقل العالم، وحائراً لايدري ماذا يفعل.

أُدخلت نينا داكونتي المستشفى في الساعة التاسعة والنصف من يوم الثلاثاء، المصادف 7 يناير، كما علمت لاحقاً من سجلات المستشفى. ونام بيلي سانشيز ليلته الأولى داخل السيارة، التي أوقفها خارج مدخل مبنى الطوارئ، وألتهم ست بيضات مسلوقة وأحتسى كوبين من القهوة بالحليب في أقرب كافيتيريا عثر عليها، لأنه لم يتناول وجبة كاملة منذ أن غادر مدريد. بعد ذلك عاد الى مبنى الطوارئ ليرى نينا داكونتي، لكنهم أفهموه بعد لأي أن علية استخدام المدخل الرئيسي. وهناك عند المدخل، ساعده أخيراً عامل الصيانة النمساوي على التفاهم مع موظف الاستقبال، الذي أكدّ في الواقع حقيقة إدخال نينا داكونتي الى المستشفى بشكل رسمي، لكن الزيارات كانت ممنوعة إلا في أيام الثلاثاء، من التاسعة حتى الرابعة. وهذا يعني أن عليه الانتظار لستة أيام أُخر. وحاول رؤية الطبيب الذي تحدث معهما بالإسبانية، ووصفه بأنه كان رجلاً أسوداً، حليق الرأس، لكن لم يتمكن أحد من مساعدته لمجرد ذكره هذين التفصيلين البسيطين.

وبعد أن أطمئن قلبه من أن اسم نينا داكونتي كان مدرجاً في سجل المستشفى، عاد الى السيارة. وأجبره شرطي مرور على إيقاف سيارته على بعد بنايتين، في أحد الشوارع الضيقة، على الجانب المخصص للسيارات ذات الأرقام الزوجية. وشاهد عبر الشارع بناية رُممت حديثاً تحمل يافطة” فندق نيكول”. وكان فندقاً ذو نجمة واحدة، وقاعة استقباله لا تعدو أكثر من حيز صغير جداً، تشغله كنبة وحيدة وبيانو عتيق منتصب، لكن المالك، الذي كان يتمتع بصوت عال ذو نبرة موسيقية كان قادراً على التفاهم مع الزبائن بكل اللغات، طالما كانت جيوبهم مليئة بالنقود. وأستأجر بيلي سانشيز هو وحقائبه الإحدى عشر وعلب هداياه التسعة الغرفة الوحيدة المتوفرة، وهي علّية مثلثة في الطابق التاسع، وصل اليها بعد صعود مضن فوق سلم حلزوني يفوح برائحة القرنبيط المسلوق. كانت الجدران مغطاة بورق حزين، ولم يكن ثمة مجال لأي شيء في النافذة الوحيدة غير نور معتم كان ينبعث من فناء داخلي. وكان هناك سرير لشخصين، وخزانة ثياب كبيرة، وكرسي ذو ظهر مستقيم، وشطّافة متحركة، ومغسلة مع طاسة وأبريق، وكانت الغرفة من الضيق بحيث أن الطريقة الوحيدة للوجود فيها هي التمدد على السرير فقط. كانت قديمة بشكل يفوق الوصف، وكان كل شيء فيها مهجوراً وبائساً، لكن نظيف جداً، تفوح منه رائحة المطهرات. وفكر بيلي سانشيز بأنه لو تسنى قضاء عمره كله محاولاً حل ألغاز ذلك العالم القائم على موهبة البخل، لما تمكن من الوصول الى حل، وهكذا فشل في تفسير سر انطفاء نور السلم قبل وصوله الى طابقه، ولم يكتشف أبداً كيف يضيء النور ثانية. وتطلب الأمر منه نصف نهار ليعرف بأن على منبسط كل طابق كان ثمة غرفة صغيرة تحتوي على دورة مياه ينظفها المرء من خلال سحب سلسلة، وعندما كان قد قرر بالفعل استخدامها في الظلام، أكتشف بالصدفة اشتعال النور عند غلق الباب بالمزلاج من الداخل، لكي لا ينسى أحد إطفاء النور ثانية. أما الدش الكائن في نهاية الممر، والذي أصّر على استخدامه مرتين في اليوم، تماشياً مع عادته التي نشأ عليها في بلده، فقد كان عليه أن يدفع المال نقداً لكي يستخدمه. أما الماء الساخن، الذي كان تحت سيطرة إدارة الفندق، فقد نفذ خلال ثلاث دقائق. وفكر بيلي سانشيز بوضوح كاف مدركاً بأن الطريقة التي يتم بها التعاطي مع الأمور الآن، رغم اختلافها الشديد مع ما أعتاد عليه، تعتبر بكل الأحوال أفضل من وجوده في العراء في شهر يناير، وشعر بحيرة ووحدة شديدتين ولم يفهم كيف تسنى له العيش دون مساعدة وحماية نينا داكونتي.

عندما صعد الى غرفته في صباح الأربعاء، القى بنفسه على وجهه فوق السرير بمعطفه، وراح يفكر بتلك المخلوقة المعجزة التي كانت ماتزال تنزف على بعد بنايتين منه، وفي الحال غرق في نوم طبيعي جداً وأستيقظ ليجد أن ساعته كانت تشير الى الخامسة، لكنه لم يكن يعرف أن كانت الخامسة مساءاً أم صباحاً، ولم يكن يعرف في أي يوم كان، وأي مدينة، وذلك بسبب المطر الذي كان يضرب على النوافذ. فأنتظر صاحياً في الفراش، دون أن يتوقف لحظة عن التفكير بنينا داكونتي، حتى تأكد بأن النهار كان ينبلج في الواقع. ثم خرج لتناول الفطور في نفس المطعم الذي ارتاده يوم أمس، وهناك عرف إن اليوم كان خميساً. كانت أنوار المستشفى مضاءة، والمطر قد توقف عن الهطول، فاتكأ على جذع شجرة كستناء خارج المدخل الرئيسي، الذي كان الأطباء والممرضون والممرضات بمعاطفهم البيضاء يدخلون ويخرجون منه، آملاً في رؤية الطبيب الآسيوي الذي أدخل نينا داكونتي الى المستشفى. ولم يفلح في رؤيته حينئذ، أو حتى في فترة ما بعد الظهر بعد الغداء، حيث أضطر الى إنهاء ترقبه له بسبب البرد القارص. في السابعة تناول فنجاناً آخر من القهوة بالحليب وبيضتين مسلوقتين جيداً أختارهما من واجهة عرض الأطعمة بنفسه بعد يومين من تناول نفس الطعام في نفس المطعم. وعندما عاد الى الفندق لينام، وجد أن سيارته كانت تقف وحيدة على جانب من الشارع، وقد ثبتت في زجاجتها الأمامية ورقة غرامة، بينما جميع السيارات الأخرى كانت واقفة على الجانب الآخر. وواجه موظف فندق نيكول مهمة صعبة في التوضيح له بأن على المرء إيقاف سيارته في الأيام المخصصة للسيارات ذات الأرقام الفردية على رصيف الشارع المخصص لذلك، والعكس صحيح بالنسبة للسيارات ذات الأرقام الزوجية، حيث يتعين إيقافها على الجانب المقابل من الشارع، وهكذا. وأثبتت مثل هذه الستراتيجيات العقلانية عدم قدرة سليل آل سانشيز دي أفيلا العريق على استيعابها، والذي قام قبل سنتين بسياقة سيارة المحافظ الرسمية داخل أحد مسارح الحي وتسبب في إحداث خراب كامل في الوقت الذي وقف فيه أفراد الشرطة البواسل مكتوفي الأيدي. وزادت حيرته عندما أخبره عامل الفندق بضرورة نقل السيارة ثانية عند منتصف الليل. وعندما كان يتقلب في الفراش محاولاً النوم، فكر للمرة الأولى ليس بنينا داكونتي فقط، بل في لياليه المؤسية في حانات البهجة الكائنة في السوق العمومي لكارتا گينا الكاريبية. وتذكر طعم السمك المقلي ورز جوز الهند في المطاعم الممتدة على طول رصيف الميناء الذي ترسو فيه المراكب القادمة من أوروبا. تذكر بيتهم، وجدرانه المغطاة بزهور ” راحة القلب “، وتخيل في الوقت الذي تكون فيه الساعة قد بلغت السابعة ليلة أمس، أباه بمنامته الحريرية يطالع صحيفة في برودة الشرفة اللذيذة.

 تذكر أمه – التي لم يكن أحد يعلم أين كانت تذهب، بغض النظر عن أي ساعة من ساعات النهار – تلك الأم المُشتهاة، المهذارة، التي كانت ترتدي ثياب الأحد وتضع عند حلول الظلام خلف أذنها زهرة، وترتدي أفخر الأنسجة التي تكاد تختنق بحرارتها. وتذكر عندما كان في السابعة، ودخل حجرتها ذات أصيل دون أن يطرق الباب ووجدها عارية في السرير مع واحداً من عشاقها العديدين. وتسبب هذا الحادث المؤسف الذي لم يأت على ذكره معها أبداً في إقامة علاقة معقدة بين الاثنين أثبتت إنها أكثر جدوى من الحب. لكنه لم يفكر يوماً بذلك، ولا بالعديد من الأشياء الرهيبة الأخرى التي طبعت بصمتها على طفولته وأحساسه بالوحدة كطفل العائلة الوحيد، حتى في تلك الليلة التي وجد فيها نفسه يتقلب في سرير احدى غرف السطوح الباريسية، دون أنيس يبثه شكواه، ودون قدرة على تمالك نفسه من الغضب لأنه لم يعد يتحمل كبت رغبته الشديدة بالبكاء.

لقد كان أرقه مفيداً، فنهض من السرير في يوم الجمعة حاملاً جراح ليلته الشريرة التي قضاها دون نوم، ومصمماً على منح حياته معنى ما. وقرر في النهاية كسر قفل الحقيبة وتبديل ثيابه، لأن جميع المفاتيح كانت في حقيبة نينا داكونتي، مع معظم ماكانا يحملانه من نقود ودفتر العناوين الذي كان من الممكن له، ربما، أن يجد فيه رقم أحد المعارف في باريس. وفي مطعمه المعتاد أدرك أنه كان بإمكانه قول مرحباً بالفرنسية، وأن يطلب شطائر لحم خنزير وقهوة بالحليب. وكان يعرف انه من غير الممكن له طلب الزبدة أو أي نوع من أنواع البيض لأنه لن يكون قادراً على تلفظ الكلمات بالشكل الصحيح، لكن الزبدة كانت تُقدم مع الخبز دائماً، والبيض المسلوق جيداً كان معروضاً على النضد، بحيث كان بإمكانه التقاط مايريد دون حاجة للسؤال. علاوة على ذلك، أصبح معروفاً لنُدل المطعم الذين كانوا يساعدونه في التعبير عن نفسه. وهكذا طلب في فترة الغداء يوم الجمعة، قطعة من لحم العجل مع بطاطا مقلية وزجاجة نبيذ، محاولاً تنظيم الفوضى الدائرة في رأسه. وشعر بارتياح كبير فطلب زجاجة نبيذ أخرى، وأحتسى نصفها تقريباً، وعبر الشارع الى المستشفى عازماً على الدخول بالقوة. لم يكن يعرف أين يجد نينا داكونتي، لكن صورة الطبيب الآسيوي الذي بعثته العناية الإلهية كانت مثبتة في دماغه، وكان متأكداً من العثور عليه. ولم يدخل من البوابة الرئيسية، لكنه استخدم مدخل الطواريء، الذي بدا له أقل حراسة، لكن لم يتمكن من عبور الممر الذي لوحت له فيه نينا داكونتي تلويحة الوداع. وعندما كان يسير داخل الممر، سأله حارس يرتدي مريلة طبية مبقعة بالدماء شيئاً، لكنه لم يعره إ نتباهاً. فتبعه الرجل، وأعاد عليه السؤال بالفرنسية عدة مرات، وفي النهاية أمسك به من ذراعه بقوة هائلة جعلته يتوقف عن الحركة. حاول بيلي سانشيز التملص منه بحركة من الحركات التي كان يجيدها أيام الصعلكة، فشتم الحارس أمه بالفرنسية، ولوى ذراعه خلف ظهره بمسكة مطرقية من مسكات المصارعة، وهو يكيل الشتائم لأمه العاهرة، وحمله الى الباب، وهو يتميز من الغيظ، وألقى به الى الخارج وسط الشارع مثل كيس من البطاطا.

ذلك المساء، وهو يعاني من آلام العقاب الذي تلقاه، شرع بيلي سانشيز بالنضوج. وقرر، كما كانت نينا داكونتي ستقرر، الاتصال بالسفير. وأثبت موظف الفندق، رغم مظهره الانطوائي، أنه متعاون جداً وذو صبر شديد مع اللغات، فعثر له على رقم وعنوان السفارة في دفتر التلفونات وكتب هذه المعلومات على بطاقة. وردت على التلفون امرأة لطيفة جداً، وأدرك بيلي سانشيز على الفور في صوتها البطيء الكابي طريقة الكلام المستخدمة في مناطق الأنديز. وبدأ يعرفها بنفسه، مستخدماً اسمه الكامل، موقناً بأن إسمي العائلتين سيتركان أثراً لدى المرأة، لكن الصوت الموجود في التلفون لم يتغير. وسمعها تردد الدرس الذي حفظته عن ظهر قلب: سعادة السفير غير موجود في مكتبه الآن، ومن غير المتوقع أن يعود حتى يوم غد، لكن يمكن رؤيته على أي حال بعد الحصول على موعد فقط، ولايتم ذلك إلا في الظروف الاستثنائية. وعرف بيلي سانشيز أنه لن يكون قادراً على الوصول الى نينا داكونتي بهذه الطريقة أيضاً، فشكر المرأة على المعلومات التي منحتها إياه بنفس اللطف الذي عاملته به، ثم أستقل سيارة أجرة وذهب الى السفارة.

كانت السفارة في شارع الشانزليزيه 22، في أحد أكثر أحياء باريس هدوءً، لكن الشيء الوحيد الذي أثر في نفس بيلي سانشيز، كما أخبرني بنفسه في كارتا گينا دي اندياس بعد سنين، هو نور الشمس الذي رآه يشع لأول مرة منذ وصوله كنور شمس كاريبية باهرة، وبرج إيفيل المشرف على المدينة الذي كانت تشع من خلفه سماء حمراء. وبدا الموظف الذي استقبله نيابة عن السفير وكأنه قد نجا تواً من مرض قاتل، ليس فقط بسبب بذلته السوداء، وياقته الكئيبة وربطة عنقه السوداء، لكن أيضاً بسبب حركاته الرسمية الصارمة وصوته الهادئ. وتفهم قلق بيلي سانشيز لكنه ذكّرة، دون أن يفقد شيئاً من رصانته وتعقله، بأنهم يعيشون في بلد متحضر بُنيت قوانينه الصارمة على أكثر المعايير عراقة وعلماً، عكس ما هو موجود لدى شعوب الأمريكيتين البرابرة، الذين كل ما يفعل المرء منهم هو تقديم رشوة للبواب لدخول المستشفى. وقال” كلا يابني العزيز، ففي كل الأحوال لم يبق لك سوى أربعة أيام من الانتظار ” ثم أردف خاتماً كلامه” وفي غضون ذلك يمكنك زيارة متحف اللوفر. إنه يستحق المشاهدة ” فلم يكن من بيلي سانشيز، والحال هذه، غير اللجوء الى ملاذه الوحيد وهو الاحتكام الى صوت العقل والانتظار حتى يوم الثلاثاء.

وعندما خرج وجد نفسه في ساحة بلاس دولا كونكورد دون أن يدري ماذا يفعل. وشاهد برج إيفيل فوق سطوح البنايات، وبدى له شديد القرب حتى انه حاول السير اليه مشياً على الأقدام بمحاذاة أرصفة رسو القوارب. لكنه أدرك في الحال أن المسافة كانت أبعد مما كان يتصور، وواصل السير في دروب مختلفة بحثاً عنه. ثم اقتعد أحد المصاطب الموجودة على طول ضفة السين وشرع يفكر بنينا داكونتي. وشاهد قوارب السحب تمر من تحت الجسور، وبدت له أشبه ببيوت جوّالة منها بقوارب، بسقوفها الحمراء وأصص زهورها الموضوعة على حافات نوافذها وحبال غسيلها الممتدة عبر سطوحها. وراقب لفترة طويلة صياد سمك ساكن الحركة، كان ممسكاً بصنارة ساكنة ذات خيط ساكن في التيار، لكنه تعب من انتظاره لحدوث حركة ما، فقرر العودة بتاكسي الى الفندق. وهنا أكتشف إنه كان يجهل اسم الفندق أو عنوانه ولم تكن لديه أدنى فكرة عن أي مكان في باريس يقع المستشفى.

دخل أحد المقاهي القريبة، بعد أن شعر بأن الهلع قد أذهله، طلب كأساً من الكونياك، وحاول أن يستجمع أفكاره المشتتة. وبينا هو يفكر شاهد نفسه متكرراً عدة مرات ومن عدة زوايا في المرايا العديدة المعلقة على الجدران، وشاهد بأنه كان خائفاً ووحيداً، وللمرة الأولى منذ ولادته فكر بواقعية الموت. لكنه شعر بتحسن بعد احتسائه لكأس الكونياك الثانية، وخطرت له بفضل العناية الإلهية فكرة العودة الى السفارة ثانية. وبحث في جيبه عن بطاقة العنوان، وأكتشف بأن اسم ورقم شارع الفندق كانا مطبوعين على ظهر البطاقة. لقد هزته تجربة الضياع هزّاً حتى إنه لم يغادر غرفته طوال عطلة نهاية الأسبوع إلا لتناول الطعام أو لتغيير مكان السيارة من رصيف الى آخر. وكانت نفس الأمطار القذرة التي شرعت بالهطول عند وصولهما في الصباح قبل ثلاثة أيام مستمرة بالهطول دون انقطاع. وتمنى بيلي سانشيز، الذي لم يكمل كتاباً في حياته، أن يكون لديه كتاب يدفع عنه الإحساس بالملل الجاثم فوقه وهو مستلق على السرير، لكن الكتب الوحيدة التي عثر عليها في حقيبة زوجته كانت مكتوبة بلغات أخرى غير الإسبانية. وهكذا واصل انتظاره ليوم الثلاثاء، وهو يتأمل الطواويس المتكررة على ورق الجدران ومفكراً بنينا داكونتي دون توقف. في يوم الإثنين قام بترتيب الغرفة، متسائلاً ماذا ستقول لو وجدتها على تلك الحال، وفي هذه الأثناء فقط اكتشف بأن معطف الفراء كان ملوثاً ببقع الدم اليابس. وأمضى فترة ما بعد الظهر في تنظيف المعطف بصابون معطّر عثر عليه داخل حقيبة السفر الصغيرة، حتى تمكن من إعادته الى حالته الطبيعية التي كان عليها عندما حُمل الى الطائرة في مدريد.

بزغ فجر الثلاثاء غائماً وجليدياً، لكن دون مطر. ونهض بيلي سانشيز في السادسة صباحاً ووقف ينتظر خارج مدخل المستشفى مع حشد من الزوار الذين كانوا يحملون الهدايا وباقات الزهور لمرضاهم. ودخل مع الحشد، حاملاً معطف فراء المنك على ذراعه، ومتجنباً طرح الأسئلة، رغم جهله التام بمكان نينا داكونتي، إلا أنه كان يشعر بيقين من رؤية الطبيب الآسيوي. سار داخل باحة داخلية كبيرة، تزينها الأزهار والطيور، وتقع على جانبيها ردهتان: ردهة للنساء الى اليمين، وأخرى للرجال الى اليسار. تبع خطى الزوار ليدخل ردهة النساء. وشاهد صف طويل من النزيلات يجلسن على الأسرّة بثياب المستشفى، ينسكب عليهن ألق النور الكبير المنبعث من النوافذ، حتى أنه فكر إن المستشفى من الداخل يبدو أكثر بهجة بكثير مما يتخيله المرء عنه من الخارج. وصل الى نهاية الممر ثم عاد أدراجه، حتى تأكد من أن نينا داكونتي لم تكن من بين المريضات. ثم دار حول القاعة الخارجية ثانية، وهو يحدق بنوافذ ردهة الرجال، حتى ظن أنه عثر على الطبيب الآسيوي الذي كان يبحث عنه.

وفي الواقع كان ذلك صحيحاً لأن الطبيب كان يقوم بصحبة أطباء آخرين وعدد من الممرضات بفحص أحد المرضى. دخل بيلي سانشيز الى الردهة، ونحى إحدى الممرضات جانباً ووقف قبالة الطبيب الآسيوي، الذي كان منحنياً يفحص المريض، وأخذ يكلمه. رفع الطبيب عينيه الحزينتين، وفكر للحظة، ثم تذكره وقال:

” أين كنت بحق الجحيم؟”

شعر بيلي سانشيز بالحيرة، وقال ” كنت في الفندق المجاور للمستشفى.”

ثم أكتشف الحقيقة. لقد نزفت نينا داكونتي حتى الموت ووافاها الأجل في الساعة السابعة وعشر دقائق من مساء يوم الخميس المصادف 9 يناير، بعد أن ذهبت جهود أفضل الأخصائيين في فرنسا لإيقاف النزيف أدراج الرياح. وظلت حتى النهاية محتفظة بصفاء ذهنها وحضورها وهي تخبرهم بكيفية العثور على زوجها في فندق بلازا – أثينييه وهو الفندق الذي كانا قد عزما على النزول فيه هي وبيلي سانشيز، وقدمت لهم المعلومات الضرورية للاتصال بوالديها. وقامت وزارة الخارجية بإعلام السفارة في يوم الجمعة، وهو اليوم الذي شرع فيه والدا نينا داكونتي بالسفر فعلا الى باريس بالطيارة. وقام السفير شخصياً بتنفيذ الإجراءات الرسمية المتعلقة بإجراءات حفظ الجثة ومراسيم إقامة الجنازة، وظل على اتصال بمديرية شرطة باريس التي كانت تبذل الجهود في سبيل العثور على بيلي سانشيز وتحديد مكان إقامته. وأذيعت نشرة مستعجلة تحتوي على أوصافه إبتداءً من ليلة الجمعة حتى مساء الأحد من الراديو والتلفزيون، ليصبح بيلي سانشيز خلال تلك الساعات الأربعون أكثر المطلوبين في فرنسا. وعُرضت صورته، التي وجدوها في حقيبة نينا داكونتي، في كل مكان. وعُثر على ثلاث سيارات من نوع بينتلي مكشوفة السقف من نفس الطراز، لكن لم تكن أي منها سيارته. ووصل والدي نينا داكونتي في ظهيرة يوم السبت وجلسا مع الجثة في مذبح المستشفى، يحدوهما الأمل حتى اللحظة الأخيرة بالعثور على بيلي سانشيز.

وأُعلم والدا بيلي سانشيز أيضاً وشرعا بالاستعداد للطيران الى باريس، لكنهما لم يفعلا ذلك في نهاية الأمر بسبب تضارب البرقيات. وأقيم المأتم يوم الأحد في الساعة الثانية بعد الظهر، على بعد مئتي متر فقط من غرفة الفندق القذرة التي كان بيلي سانشيز يتمدد فيها، تؤرقه تباريح الوحدة والغرام بنينا داكونتي. لقد أخبرني الموظف الذي أستقبله في السفارة بعد سنتين، بأنه أستلم برقية الخارجية بعد ساعة من مغادرة بيلي سانشيز لمكتبه، وذهب للبحث عنه في البارات السرية المعتمة الممتدة على طول شارع غي دو فوبوغ – سانت – أونوريه. وأعترف لي بأنه لم يعر بيلي سانشيز الكثير من الاهتمام عندما قابله، لأنه لم يكن يتخيل أبداً بأن ذلك الصبي القادم من الساحل، والمبهور بحداثة باريس، والذي يرتدي سترة شيرلنغ غير لائقة، له كل ذلك الأصل العريق.

 وفي نفس الليلة عندما تغلب على رغبته في البكاء حنقاً، أنهى والدا نينا داكونتي البحث عنه ووضعا الجثة المحنطة في كفن فضي، وذكر من رأى الجثة مرات ومرات لعدة سنين بأنهم لم يشاهدوا في حياتهم إمراه أخرى أجمل منها، حية كانت أم ميتة. ولذلك عندما دخل بيلي سانشيز المستشفى صباح يوم الثلاثاء، كان الدفن قد تم فعلاً في مقبرة لاماگنا الحزينة، التي كانت لا تبعد غير بضعة أمتار عن المنزل الذي فكا فيه رموز أولى مفاتيح سعادتهما. وأراد الطبيب الآسيوي الذي أخبر بيلي سانشيز بالمأساة أن يعطيه بعض المهدئات في غرفة الانتظار، لكنه رفض. وغادر بيلي سانشيز المستشفى دون كلمة وداع، ودون كلمة شكر، وهو يفكر بأن الشيء الوحيد الذي كان يحتاجه دون إبطاء هو العثور على أحد ما وضربه بالسلاسل حتى يتطاير مخه خارج رأسه انتقاما لفجيعته. وعندما خرج من المستشفى، لم يكن يدرك إن ثلجاً دون أثر للدم فيه كان يهطل من السماء، على شكل ندف ناعمة، ولامعة مثل ريش الحمام المتساقط، وبأن شوارع باريس كانت تعيش جواً احتفاليا لأنها كانت تستقبل أول هطول كثيف للثلوج منذ عشرة أعوام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الهلالية: كعكة محلاة هلالية الشكل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى