آخر ليلة في العالم للكاتب راي برابيري – Ray BRADBURY

خاص تدوين - قصة قصيرة - راي براد بيري صاحب رواية "فهرنهايت 451" - راي برادبري هو كاتب أمريكي من مؤلفي الخيال العلمي والفانتازيا والرعب. ولد في 22 أغسطس 1920 وتوفي في 5 يونيو 2012. أشهر أعماله هو رواية "فهرنهايت 451". حصل برادبري على العديد من الجوائز خلال حياته المهنية، بما في ذلك جائزة بوليتزر عام 2007.

المترجم علي سالم

 

 

 

 

 

آخر ليلة في العالم

 

(نُشِرَتْ هذه القصة لأول مرة في عدد فبراير 1951 من مجلة إسكوير)

“ماذا كنت ستفعلين لو عرفت أن هذه الليلة ستكون آخر ليلة في العالم؟”

“ماذا أفعل، هل أنت جاد فيما تقول؟”

“نعم، كل الجدية”

” لاأدري، لم أفكر بهذا الأمر .”

وأدارت مقبض ابريق  القهوة الفضي نحوه ووضعت الكوبين في الصحنين الصغيرين الخاصين بهما. صب لنفسه شيء من القهوة. وفي الخلفية، كانت الصبيتان الصغيرتان تلعبان بالمكعبات على سجادة صالة الاستقبال في ضوء مصابيح الأعاصير الخضراء. وكان ثمة نكهة رخية ولطيفة من عبق القهوة تفوح وتتغلغل في في هواء المساء اللطيف.

“حسنا، من الأفضل أن تبدأي التفكير بهذا ” قال.

“هل أنت حقاً جاد فيما تقول؟” قالت زوجته.

هز رأسه موافقاً.

“هل هي الحرب؟”

هز رأسه بالنفي.

“ليست القنبلة الهيدروجينية أوالذرية؟”

“لا”

“حرب جرثومية ؟”

لا شيء من ذلك على الاطلاق. انه أحساس فقط، يفزعني أحياناً، وأحياناً لا أشعر بالخوف منه أبداً – بل بالسلام”

والقى نظرة خاطفة على الفتاتين وشعرهما الأشقر اللامع تحت نور المصابيح الساطع، وقال بصوت خفيض :” لم أخبرك بشيء. لقد إنتابني هذا الشعور للمرة الاولى منذ أربعة ليال”

” ماذا؟”

“انه حلم حلمته. حلمت بأن كل شيء كان في طريقه الى الزوال وسمعت صوتاً يقول ذلك. صوت لم اسمعه من قبل، لكنه كان صوت وحسب، حيث قال أن جميع الأشياء هنا على الأرض سوف تنتهي. عندما استيقظت في الصباح لم أشعر بأن الأمر كان مهماً، بعد ذلك توجهت الى العمل لكن الشعور الذي انتابني في الحلم لم يبارحني طوال الوقت وبعد منتصف النهار بقليل لمحت ستان ويليس ينظر من النافذة، وسألته :بماذا تفكر؟ قال ’حلمت حلماً ليلة أمس’ وعرفت على الفور أي حلم يعني حتى قبل أن يبدأ بسرده لي. ثم قص علي الحلم.

“هل هو نفس حلمك؟”

“نعم،”

“كنت قد أخبرت ستان بحلمي لكنه لم يندهش بل شعر بالاسترخاء. ثم تجولنا بين المكاتب، غير مبالين بشيء ولم تكن لدينا خطة وكان سلوكنا عفوياً تماماً. واصلنا التجوال بيسر وسهولة ونحن ننظر الى الموظفين المنكبين على مكاتبهم. كان الموظفون ينظرون لأياديهم أو يتطلعون خارج النوافذ دون أن يبدو عليهم انهم ينظرون الى شيء معين. وقد تكلمنا أنا وستان مع بعضهم”

” وهل حلموا كلهم نفس الحلم؟”

” نعم نفس الحلم تماماً”

” هل تؤمن بهذا الحلم؟”

” نعم رغم اني لم أكن واثقاً هكذا من قبل”

“ومتى ينتهي العالم إذن؟”

“بالنسبة لنا سينتهي في ساعة معينة من هذه الليلة. إن الليل يجوب العالم الآن وكل الأجزاء التي يمر بها ستنتهي تباعاً حتى يصل الينا. سيستغرق الأمر كله مدة أربعة وعشرون ساعة”

لبثا جالسين في مكانيهما دون أن يلمسا قهوتيهما. ثم رفعا كوبيهما وأخذا يرتشفان على مهل، وهما ينظران أحدهما في وجه الآخر.

قالت “هل نستحق هذا المصير؟”

” المسألة ليست مسألة إننا نستحق ذلك أم لا، لأن السر يكمن في أن الأشياء لم تعد تعمل كما قبل. لا أدري لماذا لم تجادليني في ذلك حتى؟”

قالت” لأني أمتلك سبباً وجيهاً”

“هل هو نفس السبب الذي يمتلكه الموظفون في المكتب؟”

هزت راسها موافقة وقالت ” لم أشأ أن أخبرك بذلك. لقد حدث الأمر ليلة أمس. وكل سكان العمارة من النساء يتحدثن عن ذلك. مع أنفسهن طبعاً ”

التقطت صحيفة المساء ورفعتها أمام وجهه: ” لاشيء في الصحف حول ذلك”

” كلا. الجميع يعرف، فما الداع لذكر الموضوع في الصحف؟”

أخذ منها الصحيفة واسترخى في جلسته على المقعد. ثم نظر الى الفتاتين وقال لها : ” هل تشعرين بالخوف؟”

“لا. ولاحتى على الطفلتين. كنت دائماً أظن بأني سأخاف حتى الموت. لكني لست كذلك”

” أين غريزة الحفاظ على الذات التي يتحدث عنها العلماء كثيراً؟”

“لا أعلم. لايشعر المرء بكثير من الاثارة عندما تبدو له الأمور منطقية. لاشيء غير هذا الأمر كان يمكن أن يحدث من وجهة النظر التي نحياها”

” لكننا لم نكن سيئين الى درجة كبيرة، أليس كذلك؟”

” كلا. لكننا لم نكن طيبين الى درجة مهولة. أعتقد ان هذه هي المشكلة. لم نكن على درجة كبيرة من الأهتمام بأي شيء غير انفسنا، بينما يوجد الكثير من الأمور الفضيعة في العالم من حولنا”

كركرت الفتاتان في الصالة ولوحتا بايديهما عندما أسقطتا منزلهما المشيد من المكعبات.

“يخال لي أن الناس يجب أن تصرخ من شدة الهلع في الشوارع في أوقات كهذه”

” لاأظن ذلك. لايلجأ المرء الى الصراخ لأن شيئاً حقيقياً يحدث”

“هل تعلم بأني لن أفتقد لشيء عداك أنت والصبيتين. لم أحب المدن في حياتي ولا السيارات ولا المصانع، حتى عملي لا أحبه ، لاأحب اي شيء عداكم أنتم الثلاثة. لن أفتقد شيئاً عدا عائلتي وربما تعاقب الفصول أو قدح من الماء البارد عندما يكون الجو ساخناً، أو بذخ الاستمتاع بالنوم. إنها اشياء صغيرة فقط، في الواقع. لكن كيف يمككنا أن نجلس هنا ونتحدث هكذا؟”

“لأنه لايوجد شيء آخر يمكننا فعله”

” هذا صحيح، بالطبع، لو كان لدينا شيء نفعله لفعلناه. أعتقد انها المرة الاولى في تاريخ العالم التي يعرف بها الجميع ماذا يفعلون في ليلتهم الأخيرة”

” ماذا سيفعل بقية الناس ياترى خلال الساعات القليلة القادمة؟”

” قد يذهبون لحضور أحد العروض الفنية، قد يستمعون الى الراديو، يشاهدون التلفاز، يلعبون الورق، يضعون الاطفال في السرير، يذهبون الى السرير هم انفسهم، أي سوف يمارسون حياتهم الإعتيادية وكأن شيء لم يكن”

“بشكل من الأشكال هذا شيء يدعو الفخر – كالعادة”

” لسنا كلنا سيئون”

جلسا للحظة ثم صب لنفسه المزيد من القهوة.” لماذا تفترض ان هذه الليلة هي الليلة الأخيرة؟”

” لأن….”

” لماذا لم تكن ليلة ما من ليال العقد الأخير في القرن المنصرم، أو القرون الخمسة أو العشرة الماضية؟”   “ربما لأن 30 فبراير 1951 لم يحدث أبداً عبر التاريخ والآن أصبح حقيقة واقعة، لأن هذا  التاريخ يفوق في أهميته أي تاريخ آخر ولأنها السنة التي تكون فيها الأشياء كما هي في جميع ارجاء العالم لذلك فهي النهاية.”

“ثمة قاذفات تعبر المحيط من كلا الجانبين لن يتسنى لها أن تصل الى اليابسة ابداً”

” هذا جزء من السبب”

” حسنا، ماذا سنفعل الآن، هل نغسل الصحون؟” قالت.

غسلا الصحون على خير مايُرام وصفوها بأناقة فائقة. وفي الثامنة والنصف مساءاً اقتادا الفتاتان الى السرير وقبلاهما قبلة الليلة السعيدة وأُنيرت المصابيح الصغيرة الموضوعة بجانب سريرهما وتُرك الباب موارباً.

وفي طريقه الى خارج الغرفة، التفت زوجها الذي كان يحمل غليونه وقال: ” ياتُرى..”

” ماذا؟”
” لاأدري إن كان علينا أن نغلق باب الغرفة كلية أو أن نتركه موارباً لكي يتسنى لنا سماعهما لو نادت احداهما علينا”

” لاأدري أن كانتا تعلمان ماسيحدث – ان كان ثمة من أخبرهما بشيء عن هذا الأمر؟”

“بالطبع لا. وإلّا لكانتا قد سألتا”

جلس الزوجان قرب الموقد وراحا ينظران الى الجمر المشتعل عندما دقت الساعة معلنة العاشرة والنصف ثم الحادية عشرة ثم الحادية عشرة والنصف وشرعا يقرأن الصحف ويتحدثان على خلفية من الموسيقى التي كانت تنبعث من المذياع. فكرا أن جميع الناس الآخرين كانوا يعيشون الساعات المتبقية من هذه الليلة كل على طريقته الخاصة.

” حسناً” قال أخيراً وغاب معها في قبلة طويلة جداً.

” لقد عاملنا بعضنا البعض بالحُسنى، على كل حال.”

” هل ترغبين بالبكاء؟”

” لا أعتقد”

ثم شرعا يجوسان داخل البيت لكي يطفئا الأنوار ويوصدا الأبواب بعد ذلك ذهبا الى غرفة النوم ووقفا في الظلام البارد اللذيذ ليخلعا ثيابهما. تناولت شرشفاً من على السرير وطوته بعناية كعادته ووضعته فوق أحد الكراسي ثم رتبت الأغطية.

“الشراشف باردة جداً ونظيفة وناعمة” قالت.

” اشعر بالتعب.”

” وأنا كذلك”

وإندس كلاهما داخل السرير وتمددا تحت الشراشف.

” انتظر لحظة”  قالت ثم غادرت السرير تحت جنح الظلام ودارت حول المنزل ثم تناهى اليه هسيس ناعم لأحد الأبواب كان يتأرجح جيئة وذهاباً وبعد لحظة عادت اليه.

” وجدت صنبور الماء في المطبخ مفتوحاً، لكني أغلقت الحنفية” قالت.

كان ثمة مسحة هزلية في جملتها الأخيرة جعله يضحك. ضحكت معه، بعد أن أدركت مغزى الفكاهة في قولها ثم توقفا عن الضحك وإستسلما لبرودة سريرهما البالغ الاناقة واللطف، متشابكي الايدي، ورأسيهما يلامسان بعضهما البعض.

“طابت ليلتك،” قال بعد لحظة.

” طابت ليلتك،”

ثم اردفت بصوت ناعم ” ياعزيزي …”

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى