حدائق قصور الحمراء
تدوين نيوز – خاص ، في الحديث عن الابعاد الدينية لقصور الحمراء، لابد أن أعرج إلى حدائق هذه القصور المتمثلة في حدائقه الداخلية كالفناءات (باحة الرياحين، باحة الاسود) او الخارجية (كجنة العريف).
إن الحدائق التي تم إنشاؤها في الفترة النصرية، هي أكثر الحدائق الاسلامية شهرة وأهمية، ويرجع ذلك إلى قِدَمها ودرجة إتقانها في معالجة النباتات والمياه وتكامل المبنى بهذه الطريقة لترجمة كلمة الحديقة من منظور ديني، فهي قادرة على إعادة الجنة القرآنية المرغوبة على الأرض. فعناصر حدائق الحمراء تحمل مفاهيم دينية إسلامية، حيث لم تقتصر على العناصر الطبيعية والصناعية لأهداف جمالية، بل هي ناتج لمحاولة قام بها المصمم المسلم لتجسيد معان ورموز دينية، من خلال توظيف عناصر حسية والتركيز على غايات عميقة الجذور في التعاليم الاسلامية، لتقريب من يرى هذا الجمال إلى الله ولتشكيل رسالة دينية دنيوية عما سيلقاه المؤمنون في الجنة.
إن الحدائق بصفة عامة تعكس العلاقة بين الإنسان والطبيعة، أما في عقلية المسلم فتضاف رؤية أخرى لمفهوم الحدائق من حيث كونها صورة تعبرعن الشوق الإسلامي العميق للفردوس أو الجنة. وهذا ينطبق على حدائق هذه القصور، حيث تعكس بالدرجة الاولى رؤية المسلمين واشتياقهم لجنة الفردوس، فحياة المسلم مرتبطة بفكرة الجنة، والتي يمكن تخيلها على شكل حديقة، فكلما تأمل الزائر الحمراء أكثر، كلما تأكد لديه شعور بأن رغبة العرب كانت العيش في جنة.
ومما جاء في القرأن في ذكر الجنة وما تحتويه، قال تعالى:( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومساكن طيبة في جنات عدن) تعني أن الله أعد للمؤمنين النعيم الدائم في الجنان، (ومساكن طيبة) أي: حسنة البناء، طيبة القرار، (في جنات عدن) أي: مكان الخلود والإقامة، هذه الاية بالتحديد تدل على ان الجنة تحوي المياه والمساكن المريحة. وهذا بالفعل ما عمل على انجازه مصممي الحدائق في قصور الحمراء، حتى أصبحت كأنها الجنان الأرضية، التي ما إن يدخلها الانسان حتى يذهل من روعتها. فكأن بني الاحمر حاولوا قدر الإمكان أن يصنعوا حدائق شبيهة لما ترسمه مخيلتهم عن جنان الآخرة التي ذكرها الله في القرآن..
و يعرف الباحث صفي الدين حامد، الحديقة بقوله: (إنها مكان يلبي الحاجة البشرية لاستنشاق الهواء النقي ومكان دافئ للجلوس والاستراحة مع منظر جميل للناظرين وأصوات الطبيعة لزيادة المتعة فهي مكان خاص للاسترخاء والتفكير والتأمل
وهذا ما نلمسه من قرار ملوك غرناطة في تشييدهم لحدائق (جنـة العريف) التي أقيمت على ربوة عالية قريبة على قصر الحمراء،، حيث احتوى على مجموعات من البساتين والمياه المتدفقة من أعالي الجبال، تميزت بمساحتها الواسعة واحتوائها على النوافير، فأعتمدوه مصيفا ومنتزها لهم للراحة والاستجمام والاستمتاع بروعة المناظر الطبيعية لرغبتهم في الاتصال الوثيق بالطبيعة والتأمل، كما جعلوه خارج قصر الحمراء للابتعاد عن مشاكل الحكم، وقد شيد هذا القصر في القرن 13م على يد السلطان أبي الوليد إسماعيل1314م، وإن من اهم الابعاد الدينية لتشييد هذه الحدائق، هو مايعرف في الشريعة الاسلامية بعبادة التأمل، فليست كلّ العبادات بدنيّة فعليّة أو قوليّة ظاهرة، فمنها ما هي عبادة قلبيّة باطنة، تحدث في باطن الإنسان ولا تظهر على أفعاله أو أقواله، فلا يستخدم بها لسانه ولا يده، وفي القرآن الكريم آيات يمتدح الله بها من أحيا عبادة التأمل في قلبه وتفكّر في آيات الله، حيث قال الله تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار. ويُقصد بالتفكّر: إعمال العقل وإطلاقه في التأمل بآيات الله في الكون، كالتأمل في خلق الجبال والأشجار والطبيعة بما فيها من مناظر خلّابة، والتفكّر بجريان الأنهار، لذا قام حكام غرناطة بإنشاء تلك الجنان الارضية حيث كانوا يستريحون اليها للتأمل والتفكر الذي هو جانب من مجالات العبادة عند المسلمين، والذي لايزال الزائر الى يومنا هذا حين يرى جمال حدائق الحمراء يتفكر ويردد دائما إن كان هذا حال الجنان في الدنيا فكيف بما وعد الله به المتقين في دار النعيم.
والمتأمل للعديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن الجنات الأرضية أو الأخروية يندهش من دقة الوصف القرآني الذي استلهم من خلاله المسلمون العناصر الأساسية والجمالية عند تنسيق حدائقهم وعند اختيار موقعها كما في جنة العريف، فمن الآيات الكريمة التي استوحى منها مصممو بني نصر الموضع النموذجي لجنة العريف هو قوله تعالى(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير)، فقد التفت المسلمون هنا إلى إشارة دقيقة حيث أوضحت الآية أن الموقع الأمثل للحدائق والبساتين إنما يكون بالأماكن المرتفعة من الأرض (الربوة)؛ فهذا يجنِّب الأشجار التقاء جذورها بالمياه الجوفية التي تحد من نموها.. كما أنه يساعد على جودة الصرف والتخلص من المياه الزائدة. وقد صممها المسلمون على هيئة مدرجات ويلعب الماء دورًا أساسيًا فيها، إذ ينهمر من أعلى الحديقة من عيون تصب في قنوات تمرعبر الأشجار.. مما يحقق تماما ما جاء في الآية القرآنية (وماءٍ مسكوب) وهذا الاستخدام الجمالي للماء “المسكوب” هو من مكونات الحسن في جنة الآخرة التي لم تفارق خيال المعماري المسلم وهو يشيد جنة العريف!
كل هذا دفع الباحثين بقولهم أن المسلمين استطاعوا الوصول بحدائقهم الى مستويات غير مسبوقة من الابداع، إلى حد وصفهم للحدائق الاسلامية بأنها(جنة على الأرض)
فالمصمم المسلم استوحى العناصر من الوصف القرأني للجنة وأشجارها وعيونها. فحدائق الحمراء كان الهدف منها تكوين نماذج أرضية للوصف القرأني لحدائق الجنة التي وعد الله بها المتقين بعد موتهم، وعند العودة للمفهوم اللغوي (للجنة) نلاحظ تطابقها في المعنى مع الحديقة. فالجنة جمعها جنان وجنات، أي: الحديقة ذات الشجر قيل لها ذلك لسترها الأرض بظلالها،