حلم عودتهما مازال يراوده كل ليلة،ثلاث وثلاثون عاماً يبحث عن اخيه ووالده !
تدوين نيوز – خاص
لم یصدق عمار مؤید، الموظف البسيط في مؤسسة الشهداء والجرحى في البصرة، انه صار یحث الخطى نحو سنواته الخمسین وان الآنتظار الذي طال ٣٣ عاما لا زال یآكل من جرفه وینھش روحه، الا انه یرفض ان یتخلى عن “الحلم المستحيل” كما یحلو له تسميته.
“لن أفقد الآمل بعودة والدي وأخي. انا لم أجد لھما قبرا ولم استلم جثة حتى اليوم ولا توجد ایة وثائق رسمية تخبرني بما حدث لھما” یقول عمار بصوت متهدج وھو یغالب دموعه.
“سأظل بآنتظارھما حتى اخر یوم في عمري، وسآحلم بلقائهما كل ليلة، فانا لم اعد املك غیر الحلم”
يستذكر عمار ما حصل معه وعائلته قبل أكثر من ثلاثة عقود حین شھدت محافظة البصرة، ٦٠٠ كم جنوب بغداد، فوضى عارمة في اعقاب انتھاء حرب الخليج الأولى وانسحاب الجیش العراقي غیر المنظم من الكویت نهاية شباط عام ١٩٩١. كانت البصرة المحاددة للآراضي الكويتية ھي الممر الرئيسي والوحيد للقوات المنسحبة. كان الجنود محبطون وغاضبون ومنهكون بعد ساعات طويلة من المشي على الآقدام دون ایة امدادات او مؤنة او إيضاحات لما حدث.
سائق احدى الدبابات المنسحبة لم یجد وسیلة للتنفيس عن غضبه ورفضه لما حدث غیر ان یوجه سبطانة دبابته الى احد تماثيل الرئيس العراقي المخلوع صدام حسین في ساحة سعد وسط البصرة، ویطلق نحوه عدة اطلاقات مصحوبة بسیل من الشتائم والسباب بصوت جھوري.
حركة سائق الدبابة فجرت الغضب العارم الذي كان یعتمل بنفوس الجنود المنسحبین والآھالي نتيجة للحروب العبثية المتوالية والقرارات الارتجالية غیر المدروسة لصدام حسين والتي ادخلت البلاد في حصار اقتصادي قاس وجوعت ابنائه ودمرت جيشه وبناه التحتية بشكل شبه كامل. تحولت حركة سائق الدبابة الى شرارة اشعلت انتفاضة شعبية امتدت لعدد من المحافظات في الجنوب ثم انتقلت شرارتها الى المحافظات الشمالية.
“ما حدث كان انتفاضة شعبية عفویة غیر مخطط لھا ضد نظام سياسي ظالم وأجهزته الآمنیة القمعیة” یقول عمار لافتا الى ان اثنين من اخوته جمال وعماد شاركا في الآنتفاضة، حتى ان عماد اصیب في ساقه برصاصة أحد رجال الآمن الذين اشتبكوا مع المنتفضين.
كانت انتفاضة اذار او الآنتفاضة الشعبانیة كما یسمیھا العراقیون نسبة لشھر شعبان، ثامن الآشھر العربية وفقا للتقويم الھجري، أكبر تحد داخلي واجهه النظام البعثي طیلة فترة حكمه التي امتدت لخمسة وثلاثين عاما.
استخدمت القوات الموالية للرئيس المخلوع المدفعية الثقيلة وطائرات الهليكوبتر المخصصة لنقل الجرحى والإمدادات الطبية لقمع المنتفضين واستعادة السيطرة علي المحافظات المنتفضة.
منظمة العفو الدولية في تقریرھا المنشور في تموز ١٩٩١ قالت ان الجیش العراقي وجهاز المخابرات وعناصر أمنية موالية لصدام حسين، نفذت حملات اعتقال واسعة النطاق وتعذيب واعدامات ميدانية جماعية غیر قانونية ضد افراد یشتبه بمشاركتهم في انتفاضة اذار. وان مدنيين عزل بينهم أطفال ونساء تم استهدافهم أيضا.
تقرير المنظمة أكد ان الخروقات التي ارتكبھا النظام البعثي آنذاك ضد المدنیین “كانت وحشیة الى اقصى الحدود” وأنها انهت الانتفاضة بشكل كامل بنھایة شھر اذار ومطلع شهر نیسان.
الإخفاء القسري كان أحد الآساليب التي استخدمتها القوات العراقية الموالية للرئيس المخلوع في تلك الفترة. تقریر منظمة العفو الدولیة الذي صدر في العام نفسه كشف عن ان القوات العراقية الموالية للنظام البعثي مارست “نمطا مكررا وواسع الآنتشار” من الإخفاء القسري ضد المشتبه بمشاركتهم في انتفاضة اذار.
جمال ذو الستة عشرة ربیعا، كان احد الشباب القصر الذین تم تغییبھم قسرا بعد اعتقاله.
بعد قمع الآنتفاضة، ظن والد عمار ان تهريب ولده عماد والآنتقال للعیش في منطقة اخرى من مناطق البصرة، سیبعد شبح الملاحقة عن أبنائه الباقين، لكنه لم یلتفت الى ان الآجھزة الآمنیة العراقیة حینھا “كانت عبارة عن منظومة اخطبوطیة لھا أذرع في كل مكان” یقول عمار
فما ان ذھب جمال لمدرستة لإحضار وثيقة نقله الى المدرسة الجديدة حتى جرى اعتقاله.
“تآخر جمال كثیرا ذلك الیوم. كان الجمیع متوجسا ورغم نیران الخوف والقلق التي شبت في احشائنا الا ان احدا منا لم یجرؤ على الذھاب الى اي من الدوائر الآمنیة للسؤال عنه،” یقول عمار
“اي رجل یذهب للسؤال عن جمال حینھا كان سیعتقل لا محالة. لم یكن الآمر قابلا للتفاوض او المساومة مع دوائر الآمن انذاك،”.
صار القرار ان تذھب والدة جمال للسؤال عنه. لم یكن خبر اعتقال جمال مفاجئا للعائلة الا ان المفاجئة التي الجمت الجمیع كانت ان الشخص الذي ابلغ السلطات عن جمال ھو احد اساتذته، یقول عمار
“اعتقل جمال من داخل المدرسة. لم تشفع له سنواته الستة عشرة وصرخاته واستنجاده بآساتذته.
لم تنته مأساة عمار وعائلته عند ھذا الحد، فرحلة البحث عن جمال كانت قد بدأت توا ولآن عمار كان ھو التالي في التسلسل العمري للأولاد، كان والده یصطحبه معه للبحث عن جمال في دوائر الآمن والسجون في البصرة.
لم تستمر رفقة عمار ووالده طويلا، فبعد عدة اسابیع ذهب الفتى برفقة والده كالعادة الى مديرية امن البصرة علهم يتلقون إجابة عن مصير جمال، الا ان الوالد انهار وفقد السيطرة على غضبه فراح يسب صدام ويشتمه على مرآى ومسمع رجال الآمن داخل مبنى المديرية بعد ان یآس من الحصول على ایة معلومات تكشف عن مصیر ولده جمال، “فاعتقلوه هو الآخر”.
“تبخر جمال ووالدي في تلك السنة. لم نعرف عنھما شیئا منذ ذلك الحین” یقول عمار
لا توجد احصاءات رسمیة تكشف عن عدد ضحایا الآنتفاضة الشعبانیة بشكل دقیق حتى الیوم، الا ان مھدي التمیمي، المتحدث بأسم المفوضیة العلیا لحقوق الإنسان في البصرة یقول ان الانتفاضة خلفت أكثر من ١٠٠ ألف مفقودا ومغيبا قسريا في عموم المحافظات الجنوبية المنتفضة، “حصة البصرة منھا كانت الخمس”
لم یفقد عمار الآمل بالعثور على اخیه ووالده او أحدهما على الآقل الا ان اسئلته غیر المباشرة وزیاراته المتخفیة لمراكز الآعتقال المؤقتة ومدیریات الآمن والمقرات الحزبیة في البصرة، لم تسفر عن شيء طیلة السنوات الاثني عشر التي سبقت سقوط النظام البعثي عام ٢٠٠٣، الا انه فوجئ في تشرین الثاني ٢٠٠٥ بقیام صحیفة الصباح الحكومیة بنشر جزء من ارشیف جھاز المخابرات العراقیة.
احدى الوثائق المنشورة كانت صادرة من “مديرية الآمن العامة” المرتبطة برئاسة الجمهورية آنذاك بتاريخ ١٣/ اذار/ ١٩٩١ ومعنونة الى امرية الآنضباط العسكري – سجن رقم ١. الوثيقة تقول “نرسل اليكم المتهمين المبينة أسمائهم بالقائمة المرفقة طيا والذين اثبت التحقيق اشتراكهم في حوادث الشغب والتخريب المعادية، راجين استلامهم والتصرف بهم”.
القائمة المرفقة تضمنت ٥٩ اسما، جمال مؤيد كان الآسم الحادي والأربعين.
الصحيفة وضعت عنوانا عريضا للوثائق المنشورة يقول: “قوائم أسماء من اعدمهم النظام الفاشي ولم نعثر على قبورهم”.