كيف يشكل تيك توك خطرا على السردية الإسرائيلية؟

تدوين نيوز – متابعة
مع انتشار المحتوى الداعم لفلسطين على تطبيق تيك توك، عادت بقوة إلى الواجهة الدعوات لحظره وإيقافه في الولايات المتحدة، كما كانت ترغب إدارة ترامب سابقا. عاد التطبيق إلى مرمى نيران الساسة وأعضاء مجلس الشيوخ الأميركيين، ليطالب أحدهم إدارة بايدن بحظر التطبيق في الولايات المتحدة بسبب انتشار وغزارة المحتوى المعادي لإسرائيل داخل التطبيق، فيما ذكر آخر أن التطبيق “يغسل دماغ” الشباب الأميركي ويدفعه للتعاطف مع حركة حماس. بينما اتهم “سيناتور” ثالث الحكومة الصينية باستخدام تيك توك آلة دعاية “بروباغندا” ضد الشعب الأميركي (1).

كل ذلك رغم أن الشركة أكدت بنفسها أن خوارزمياتها لا ترشح المحتوى الداعم لفلسطين على حساب إسرائيل، وأنها حذفت نحو أكثر من 925 ألف مقطع فيديو “يخالف سياسة المنصة”، وبالطبع يعود أغلب تلك المقاطع إلى محتوى داعم لفلسطين وغزة (2).

يُصنِّف مركز تيك توك الإبداعي، وهو منصة توفر معلومات وبيانات حول الموضوعات الأكثر رواجا، “الترندات”، على المنصة للمسوقين والمؤثرين، الوسوم (هاشتاغات) إلى عدة فئات مختلفة بناء على الصناعة المرتبطة بها، مثل الأخبار والترفيه والألعاب والتعليم والخدمات المالية والرياضة وخدمات الأعمال وغيرها. يمكنك الاطلاع على هذه المعلومات والأرقام بالنسبة لدولة محددة أو في مختلف أنحاء العالم، وتحكم تلك القوائم من الوسوم الشائعة على التطبيق خوارزمية تأخذ في اعتبارها بالأساس عدد مقاطع الفيديو التي تشمل هذا الوسم، وعدد مشاهدات هذه المقاطع.

مثلا على مدار الثلاثين يوما الماضية، وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات، شارك المستخدمون في الولايات المتحدة على المنصة في وسم “ساند فلسطين” (#standwithpalestine) بنحو 16 ألف مقطع فيديو، وحصد مشاهدات وصلت إلى 46 مليون مشاهدة، بينما شاركوا في وسم “ساند إسرائيل” (#standwithisrael) بنحو 6 آلاف مقطع، وحصد مشاهدات وصلت إلى 45 مليون مشاهدة، بمعنى أن المشاركات في الوسم المساند لفلسطين كانت أكثر من ضِعْف المشاركات في الوسم المساند لإسرائيل.

الأمر يتضاعف أكثر عند النظر إلى الأرقام عالميا، إذ وصل عدد مقاطع الفيديو التي احتوت على وسم مساندة فلسطين إلى 314 ألف مقطع بنحو مليار مشاهدة، بينما في وسم مساندة إسرائيل وصل عدد المقاطع إلى 29 ألف مقطع بنحو 276 مليون مشاهدة فقط.

تنتشر وسوم أخرى وتُستخدم مع مقاطع الفيديو بأعداد أكثر مثل وسم “الحرية لفلسطين” (#freepalestine)، إذ وصلت عدد مقاطع الفيديو لهذا الوسم في الولايات المتحدة إلى 264 ألف مقطع بمشاهدات وصلت إلى مليار مشاهدة خلال المدة نفسها، بينما عالميا وصل عدد المقاطع إلى مليونَيْ مقطع بنحو 11 مليار مشاهدة

الخوف من الخوارزميات

لكن هناك أمر مختلف بعض الشيء في خوارزمية تيك توك التي تعرض المحتوى في صفحة المستخدم الرئيسية، المعروفة باسم “For You”، وهو أن انتشار تلك الوسوم لا يؤثر على ما يراه المستخدم، بمعنى أن انتشارها وتوسعها بهذا الشكل لا يعني ظهورها لشخص لا يهتم أصلا بهذا النوع من المحتوى، لذا فإن هذا الانتشار يعني ببساطة مشاركة واعية من أشخاص يظهر لهم محتوى يهتمون به من الأساس، وربما هذا أكثر ما يخيف الإدارة الأميركية والإسرائيلية.

الخوف الأساسي هذه المرة من التطبيق لا يتعلق بما يقدمه من محتوى، لكنه يرتبط بطبيعة غالبية مستخدميه، وأكثرهم من الشباب الأميركي، الذي لم يعد يقتنع بوسائل الإعلام التقليدية، التي يمكن السيطرة عليها وزرع السرديات التي ترغب بها الحكومة الأميركية، وحجب أي معلومات أخرى ترغب في حجبها عن المواطنين. حتى فيسبوك، وهي المنصة الاجتماعية الأكبر من حيث عدد المستخدمين، يمكن السيطرة عليها لأنها شركة أميركية، ومارك زوكربيرغ يمكن وصفه بأنه رجل أميركا الأول في عالم وسائل التواصل الاجتماعي وهو مناصر معروف لإسرائيل، وتُعَدُّ منصاته من الأكثر تقييدا للمحتوى الداعم للرواية الفلسطينية.

يتضح الأمر حين النظر في المقابل إلى منصة “إكس”، تويتر سابقا، فرغم هامش الحرية الأوسع الذي منحته المنصة لمستخدميها، والذي تسبب في ظهور محاولات لمعاقبتها بسحب إعلانات الشركات الكبرى، فإنها تظل منصة إخبارية في المقام الأول، وليست منصة للتواصل الاجتماعي أو الإنساني بالمعنى التقليدي، ما يجعل قدرتها على التأثير على توجهات المستخدمين محدودة إلى درجة كبيرة.

هذه هي الميزة الأساسية التي يوفرها تيك توك، قدرته أن ينقل هذا الجانب الإنساني بسهولة، كما أن الشباب، خاصة من الجيل زد “Z”، يعتبر تيك توك منصته الأساسية لكل شيء الآن، لأنه تعود على هذا النمط من المحتوى، وأصبحت المنصة مصدرا موثوقا لمعلوماته بعيدا عن تغريدات الصحفيين والمشاهير والساسة كما يحدث على تويتر.

إعلام من نوع جديد

منذ انطلاق التطبيق في الولايات المتحدة عام 2018، أصبح تيك توك المصدر الأساسي للأخبار للملايين من الشباب، وأصبح منصة للنقاشات والحديث في كل أمور السياسة بين أبناء هذا الجيل. في شهر يونيو/حزيران الماضي، أصدر معهد رويترز لدراسة الصحافة تقريرا يؤكد انخفاضا حادا لشعبية المواقع الإخبارية التقليدية، ويذكر أن 20% من الشباب، بين أعمار 18-24 سنة، يلجؤون إلى تيك توك مصدرا أساسيا لمعرفة الأخبار، وهذه النسبة ارتفعت بنحو 5% مقارنة بالعام الماضي، أي إن الأمر في زيادة مستمرة (3).

تيك توك هو الشبكة الاجتماعية الأسرع نموا في هذا السياق، لكن الملاحظة الأهم أن كثيرا ممن شاركوا في استفتاء رويترز، نحو 94 ألف شخص، اختاروا تجاهل الأخبار تماما، تقريبا أقل من نصف المشاركين أبدى اهتماما بالأخبار، وهذه النسبة أقل بنحو 15% مقارنة بعام 2018. كما ذكر نحو ثلث المشاركين أنهم يزورون شبكات التواصل الاجتماعي، مثل تيك توك وتويتر، قبل زيارة المواقع الإخبارية عند البحث عن عناوين الأخبار، والأهم أن معظمهم يهتم ويصدق المشاهير والمؤثرين والأشخاص العاديين أكثر من اهتمامهم بكلام الصحفيين على منصات مثل تيك توك وإنستغرام وسناب شات.

يشير تقرير معهد رويترز إلى أحد العوامل المهمة، التي تدفع نحو نمو وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها منصات إخبارية، وهو زيادة الشهية للتقارير التي تحتوي على الوسائط المتعددة “ملتيميديا”، خاصة بين أبناء الجيل زد، إذ إنهم الأقل اهتماما بقراءة الأخبار بسبب تفضيلهم الاستماع أو مشاهدة مقاطع الفيديو. تيك توك تحديدا هو أفضل وسيلة لإشباع هذا التوجه، لأننا الآن نعيش في عصر يعتمد في الأساس على استهلاك المحتوى المرئي بجميع أشكاله، خاصة مع انتشار الهواتف الذكية.

كذلك من أسباب انتشار التطبيق سهولة استخدامه وسرعته في نشر المحتوى، لأنك لن تحتاج سوى إلى كاميرا الهاتف الذكي، والتطبيق نفسه يوفر بعض أدوات التعديل والمونتاج على الفيديو، ليمكنك ببساطة من نشر مقطعك. وفي حرب الإبادة التي تشنها قوات جيش الاحتلال على الأبرياء في غزة، انتشرت الحسابات المختلفة على تيك توك التي تنشر مقاطع فيديو لما يحدث هناك، بجانب مقاطع أخرى لتحليل الأحداث، وتعليقات من المؤثرين حول ما يحدث.

ببساطة، تيك توك يكسر تلك السلسلة التي تقيد الصحافة التقليدية، ويمكن اعتباره إعلاما من نوع جديد أكثر حرية وأكثر قربا من تفكير جيل الشباب الآن، وبهذا أمكن للفلسطينيين استخدام التطبيق ليحكوا قصصهم الإنسانية، بدلا من اعتبارهم مجرد أرقام في أخبار صحيفة عادية.

جيل تيك توك

تيك توك ليس دليلا أو ممثلا لفهم وجهات النظر العالمية حول الحرب في غزة، لكنه يُمثِّل نافذة صغيرة وفريدة من نوعها حول كيفية تفاعل جيل الشباب على المنصة مع أخبار الحرب. (الصورة: شترستوك)يوفر تقسيم الأجيال الفرصة للباحثين للنظر إلى البشر من خلال مكانهم في دورة الحياة، ولكل جيل خبراته التكوينية المختلفة، مثل الأحداث العالمية الكبرى والتحولات والنقلات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية، التي تُشكِّل وجهات نظر أبنائه حول كيفية عمل العالم (4).

تُعَدُّ التكنولوجيا، وخاصة التطور السريع لكيفية تواصل البشر وتفاعلهم مع بعضهم وتلقيهم للمعلومات، من الأمور المهمة التي قد تُشكِّل وعي الأجيال؛ مثلا نشأ جيل الأجداد مع انتشار جهاز التلفزيون بشكل واسع، مما أدى إلى تغيير أنماط حياتهم واتصالهم بالعالم بطرق جديدة، ثم نشأ جيل الآباء بينما كانت ثورة الحاسوب تبدأ في التوسع، ثم نشأ جيل الألفية (مواليد 1981 إلى 1996) أثناء فترة انفجار الإنترنت.

ضمن مسيرة هذا التطور، كان ما يميز جيل المراهقين والشباب الحالي، مواليد ما بعد عام 1996 الذي يُعرف بالجيل زد، هو أن كل ما سبق كان جزءا أساسيا من حياتهم منذ البداية؛ أعلن ستيف جوبز عن أول جهاز آيفون عام 2007، عندما كان أكبر أبناء هذا الجيل في سن العاشرة. وعندما وصلوا إلى سن المراهقة، كانت الوسيلة الأساسية التي يتواصل بها الشباب من خلال الهواتف الذكية وشبكات “الواي فاي” وتطبيقات الدردشة الفورية. حتى بعد استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي التي كانت موجودة ومنتشرة فعلا، مثل فيسبوك وتويتر، فقد بحث عن وسيلة جديدة وكانت تلك الوسيلة هي تطبيق تيك توك.

جيل كامل كنا نطلق عليه جيل الآيفون في السابق، حاليا يمكن أن نطلق عليه جيل تيك توك. هذا الجيل وجد في تيك توك ملاذا آمنا، بعيدا عن أفراد عائلته الأكبر على المنصات القديمة، وبمحتوى سريع يناسب تصوراته عن الحياة التي أصبحت أسرع من اللازم. المهم أن تيك توك بالنسبة لأبناء هذا الجيل هو مصدر أساسي للمعلومات، ومحرك رئيسي للبحث، ومنتج موثوق للأخبار. هذا الجيل الجديد يبحث عن معلوماته في تيك توك، أو مقاطع يوتيوب، إذ يرى كثيرون أن هذه الوسائل تقدم تجارب إنسانية مرئية أفضل من النتائج التي قد يجدونها على صفحة بحث غوغل العادية مثلا.

هذا الجيل هو مَن تحاول إسرائيل إقناعه برسائل وسرديات اعتادت أن تقدمها للأجيال السابقة في الغرب عبر وسائل الإعلام التقليدية، بنجاح كبير. لكن الجيل الحالي يملك أدوات إعلامه الخاصة، لا ينتظر أخبارا أو سرديات من أكبر الصحف العالمية حول ما يحدث، والمفاجأة أن هذا الجيل استخدم تلك الأدوات، مثل تيك توك، بالشكل الأمثل ليبيّن هشاشة تلك السرديات.

في حين أن تيك توك ليس دليلا أو ممثلا لفهم وجهات النظر العالمية حول الحرب في غزة، لكنه يُمثِّل نافذة صغيرة وفريدة من نوعها حول كيفية تفاعل جيل الشباب على المنصة مع أخبار الحرب، وكيف تُمثِّل المنصة متنفسا ضئيلا لهم ليعبّروا عن غضبهم ومشاعرهم تجاه كل تلك الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي.

الخوف الذي يفرضه هذا الوضع، بالنسبة للساسة وكبار رجال الدولة في الولايات المتحدة، أن هناك تغيرا واضحا في تفكير وآراء هذا الجيل الجديد، وأن الشباب أصبح يبحث ويتقصى عن المعلومات والحقائق بمجرد امتلاكه لهاتف ذكي وتطبيق واتصال بالإنترنت، ولم يعد يحتاج إلى مواقع أو قنوات أو صحف تقليدية تخبره مَن الشرير في القصة، وأي طرف يجب الانحياز إلى صفه. لذا، بدلا من لوم منصة مثل تيك توك واتهامها بنشر “البروباغندا” الصينية، ربما عليهم النظر إلى الشرير الحقيقي في هذه القصة التي تُذاع على الهواء مباشرة أمام أعين العالم أجمع!

——————————————————————————–

المصادر:

1) Lawmakers Renew Calls to Ban TikTok After Accusations of Anti-Israel Content

2) Ensuring a safe, authentic space during times of conflict

3) Fewer people trust traditional media, more turn to TikTok for news, report says

4) The Whys and Hows of Generations Research

المصدر
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى