ظلال فاغنر.. هل يغذي مرتزقة روسيا الحرب في السودان؟

في موقع إجلاء بالغ الأهمية بالنسبة للمدنيين في السودان، كان بإمكان الفارّين من مناطق الصراع العسكري الذي اندلع منتصف أبريل/نيسان الماضي في العاصمة الخرطوم وضواحيها، والذي نزحوا نحو مدينة بورتسودان الساحلية، تمييز ملامح أولئك المسلحين ذوي الهيئات الغربية، الذين أخذوا يراقبون عمليات الإجلاء سيرا على الأقدام أو من داخل قواربهم الصغيرة. لم يكن أولئك المسلحون جنودا سودانيين ينتمون إلى أي من طرفي الصراع، ولكنهم كانوا عناصر من جيش المرتزقة الروسي “فاغنر” الذي انتشر عبر مساحة كبيرة من أفريقيا بعدما لعب دورا في صراعات الشرق الأوسط، تحديدا في سوريا وليبيا.

يتمركز هؤلاء المسلحون في ميناء بورتسودان ويلعبون دورا في الاشتباك العسكري القائم قُرب العاصمة الخرطوم، حيث يتركز القتال بين اللواء عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي يرأس قوات الدعم السريع التي حازت صفة المؤسسة العسكرية الرسمية في عهد الرئيس المخلوع عُمر البشير. وقد اندلع الصراع العسكري بين الفريقين الشهر الماضي إثر تفاقم الخلافات حول الانتقال السياسي وتقاسم السلطة والجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش، ومع تطور المعارك وأحداثها، سرعان ما طُرِحَت العديد من الأسئلة حول دور المجموعة الروسية المُسلَّحة ومن خلفها موسكو في النزاع السوداني الحالي.

السودان على رادار الكرملين

الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في زيارة رسمية عام 2017. (رويترز)في أواخر عام 2017، طار الرئيس السوداني عمر البشير إلى العاصمة الروسية موسكو، والتقى بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في منتجع بمدينة سوتشي الروسية المُطِلَّة على البحر الأسود. وقد كان لهذا اللقاء غاية واضحة لم يتردد البشير في إعلانها، وهي إيجاد يد حامية من “الأعمال العدوانية للولايات المتحدة” ضد السودان. من جهته، لم يتردد بوتين في الاستجابة لطلب البشير، الذي وعده بأن تصبح السودان “مفتاح أفريقيا” للكرملين، بعد أن عرض عليه امتيازات التعدين وبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر في بورتسودان، بوابة البلاد للتجارة الدولية.

في غضون أسابيع، وصل عناصر مجموعة فاغنر الروس الذين خدموا في أوكرانيا وسوريا إلى السودان، ومعهم الجيولوجيون الروس الذين جاءوا للعمل في مجال التعدين عن طريق شركة “مروي جولد” المحلية التي تعود ملكيتها إلى شركة “إم إنْفِسْت” الروسية. وفي أبريل/نيسان 2018، أي بعد نحو خمسة أشهر من اتفاق البشير وبوتين، سافر “يفغيني بريغوجين”، مؤسس ومالك فاغنر، في زيارة إلى الخرطوم، وبعد رحيله تحدثت المصادر عن وجود نحو 100 رجل من فاغنر يُدرِّبون القوات العسكرية السودانية. وقد نما هذا التعاون حتى ارتفع عدد عناصر المجموعة إلى نحو 500 تمركزوا بشكل رئيسي في الجنوب الغربي بالقرب من “أم دافوق” القريبة من حدود السودان مع أفريقيا الوسطى.

في البداية، كُلِّفَت عناصر فاغنر بحراسة مصالح رئيسهم بريغوجين في تعدين الذهب داخل بلد يُعَدُّ ثالث أكبر منتج للمعدن الأصفر اللامع في أفريقيا، ولاقى نشاطهم هذا دعما من الكرملين، حيث زوَّدت وحدة الطيران 223 التابعة للقوات الجوية الروسية شركة “إم إنفست” بطائرتين بين أبريل/نيسان 2018 وفبراير/شباط 2019. وفي عام 2018 أيضا، وثقت مجموعة الأبحاث الروسية مفتوحة المصدر (CIT) أدلة على أن حراس الأمن في فاغنر ساعدوا القوات السودانية في قمع الاحتجاجات العامة في الخرطوم، بما في ذلك قيام مستشاري فاغنر بتقديم المشورة للبشير في إطلاق حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه المتظاهرين المناهضين لحكومته، وهي احتجاجات أدت في النهاية إلى الإطاحة به بعد بضعة أشهر.

دفع ذلك وزارة الخزانة الأميركية لمعاقبة عدد من الكيانات المرتبطة بـ” بريغوجين” في عدد من الدول في مقدمتها السودان. وقد جاء في بيان وزارة الخزانة الأميركية آنذاك أن “دور بريغوجين في السودان يسلط الضوء على التفاعل بين العمليات شبه العسكرية الروسية، ودعم موسكو للأنظمة الاستبدادية، واستغلال الموارد الطبيعية، فالشركات المستهدفة (التي جرى حظرها من قِبَل الوزارة) سهَّلت بشكل مباشر عمليات بريغوجين العالمية وحاولت قمع وتشويه سمعة المتظاهرين الذين يسعون إلى إصلاحات ديمقراطية في السودان”.

“يفغيني بريغوجين” مؤسس ومالك فاغنر. (رويترز)بعد الإطاحة بالبشير، حاول بريغوجين وفاغنر ترسيخ علاقاتهم مع حكام البلاد الجدد، وبخاصة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ولكن سرعان ما تدهورت تلك العلاقة بعد مذبحة الخرطوم عام 2019 التي فرَّقت فيها أجهزة الأمن السودانية اعتصاما باستخدام العنف، ما دفع مجموعة فاغنر نحو التركيز على مهمة حماية مصالح روسيا في التعدين أكثر. وبحلول عام 2021، كانت وجهة روسيا في السودان أكثر وضوحا، حيث ترسخت علاقة فاغنر مع قائد قوات الدعم السريع حميدتي، وإيذانا ببدء هذه المرحلة زار حميدتي موسكو لتعزيز العلاقات بينه وبين الروس في أوائل عام 2022، في اليوم الذي بدأت فيه روسيا حربها في أوكرانيا.

يكشف تحقيق أجرته شبكة “سي إن إن” في يوليو/تموز 2022 أبعاد العلاقة بين موسكو والقيادة السودانية، التي منحت روسيا حق الوصول إلى ثروات الذهب في الدولة الواقعة في شرق أفريقيا مقابل الدعم العسكري والسياسي. ويذكر التحقيق أن العلاقة بدأت بشكل جدي بعد استيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم عام 2014، حين نظرت روسيا -حسب التحقيق- إلى ثروات الذهب الأفريقية بوصفها وسيلة للتحايل على العقوبات الغربية، فيما تدفع الآن موجة العقوبات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عملية تسريع الاستيلاء على الذهب في السودان، ما زاد من نشاط فاغنر في البلاد في الفترة الأخيرة بفضل علاقتها مع قوات الدعم السريع.

روسيا وذهب السودان

تمخَّض عن تحالف الروس مع حميدتي قنوات لتهريب الذهب من السودان إلى روسيا عبر دبي وسوريا، ما عزَّز مخزون الكرملين من الذهب. (REUTERS)في يونيو/حزيران الماضي، كُشف النقاب عن مجازر بحق العمال في مناجم الذهب الواقعة على الحدود بين السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، فعلى مدار أسابيع اجتاح القتلة المخيمات المليئة بالعمال وأطلقوا النار عشوائيا وطاردوا العمال الفارين الذين تركوا خلفهم ما حصلوا عليه من الذهب وأجهزة الكشف عن المعادن. وقد ظهرت صور قاسية للضحايا في مواقع التعدين ببلدة “كوكي” في شمال أفريقيا الوسطى. وكان مرتكبو المجازر هم أنفسهم المرتزقة الذين يعملون لصالح مجموعة فاغنر الروسية، فقد ظهرت ملامحهم الأوروبية وهُم يرتدون الزي العسكري الرمادي ويتنقلون في شاحنات صغيرة وعربات مدرعة وطائرات مروحية.

تُظهِر هذه الحوادث كيف تحوَّلت عناصر المجموعة من مهامها الرسمية التي انحصرت في حماية مناجم الذهب لصالح شركات التعدين الروسية، حيث الأمن الضعيف في المناطق النائية في أفريقيا، إلى العمل على إنشاء إمبراطورية تجارية غير شرعية دفعتها لارتكاب جرائم بحق الأفارقة. وقد سهَّلت العلاقة مع حميدتي مهام المجموعة بفضل الروابط الربحية التي أقامتها فاغنر مع الرجل، الذي يهيمن بحكم الواقع على صناعة الذهب في السودان، ويتحكم في قوة عسكرية ضخمة لا تخضع لإشراف أي جهة خارجية.

تعزَّزت الشراكة بين حميدتي وفاغنر بعد الانقلاب الذي قاده المكون العسكري السوادني على الحكومة المدنية في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وبدأت المجموعة تقديم المساعدات العسكرية لقوات الدعم السريع التي قمعت الحركة الشعبية المحدودة التي دعت لحل ديمقراطي لأزمة البلاد. أما بالنسبة للروس، فقد تمخَّض عن تحالفهم مع حميدتي قنوات لتهريب الذهب من السودان إلى روسيا عبر مراكز وسيطة في الشرق الأوسط، ما عزَّز مخزون الكرملين من الذهب، وساهم ولو بشكل محدود في التفاف روسيا على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

في نهاية المطاف، تمكنت روسيا، التي أضحت أكبر لاعب أجنبي في قطاع التعدين الضخم في السودان، من مضاعفة كمية الذهب المحتفظ بها في البنك المركزي الروسي بأكثر من أربعة أضعاف منذ عام 2010، وهو وضع خلق ما سُمِّي بـ”صندوق الحرب”، الذي امتزجت فيه الواردات الأجنبية واحتياطيات الذهب المحلية الهائلة للبلاد. لم يأت كل هذا الذهب من السودان بالطبع، لكن الكثير منه جاء عبر عمليات التعدين “المشبوهة” لموسكو في أفريقيا، هذا وتذكر الأرقام أن الكرملين احتفظ بذهب أكثر من الدولار الأميركي لأول مرة في يونيو/حزيران 2020، حيث شكَّلت السبائك أكثر من 23% من إجمالي الاحتياطيات الخاصة به.

وقد فصَّل تقرير صادر عن مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) غير الربحي ومقره الولايات المتحدة أنشطة موسكو في مجال التعدين بالسودان، وأوضح التقرير أن اللوائح السودانية تُلزِم جميع شركات التعدين الأجنبية بمنح الخرطوم 30% من أسهمها، بيد أن الشركة المملوكة لروسيا لا تخضع لهذا التقاسم في الأرباح بفضل الصفقة التي أُبرِمَت مع عمر البشير قبل عزله من منصبه.

علاوة على ذلك، دفعت الشركة الأم لمروي غولد “إم إنفست” ملايين الدولارات لشركة تديرها المخابرات العسكرية السودانية مقابل الحصول على تصاريح إقامة وأسلحة لموظفيها الروس في السودان. ويعني كُل ما سبق، أن تغيُّر النظام السياسي في السودان كان ليمَثَّل نكسة كبيرة للروس، ويهدَّد صفقات تجارة الذهب التي تُعَدُّ أولوية بالنسبة لهم، بالإضافة إلى صفقات السلاح، والمشروع المتوقف حاليا لإنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر في بورتسودان، وهو ما دفع موسكو للاستثمار بقوة في علاقاتها السودانية، وبشكل خاص في علاقتها مع حميدتي وقوات الدعم السريع.

حميدتي في شبكة مصالح موسكو الأفريقية

ذهبت مصادر دولية وسودانية للقول بأن حفتر ومن خلفه الحليف الروسي فاغنر، لربما كان يستعدان لدعم قوات حميدتي حتى قبل بدء الصراع الحالي. (رويترز)في عام 2019، كشف تقرير أعدَّه فريق الخبراء التابع للجنة العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا أن حميدتي أرسل ألف جندي سوداني من قوات الدعم السريع إلى الشرق الليبي في يوليو/تموز من العام نفسه بهدف “حماية” مدينة بنغازي وتمكين قوات الجنرال الليبي خليفة حفتر من الهجوم على طرابلس. وقد تمركزت القوات السودانية حينها في منطقة قُرب الجفرة، كما شاركت في تدريبات بالذخيرة الحية مع أفراد فاغنر المتمركزين في الأراضي الليبية أثناء عامي 2021 و2022. ومع بدء الصراع الأهلي الحالي في السودان بين الجيش والدعم السريع، ظهر أن حفتر كان من أوائل مَن قدَّموا الدعم لقوات الدعم السريع “ردا لجميل” حميدتي على ما يبدو، فقد تلقَّت قوات الدعم السريع ما لا يقل عن 30 ناقلة وقود، وشحنة واحدة على الأقل من الإمدادات العسكرية من أحد أبناء حفتر.

وقد ذهبت مصادر دولية وسودانية للقول إن حفتر ومن خلفه الحليف الروسي فاغنر لربما كانا يستعدان لدعم قوات حميدتي حتى قبل بدء الصراع الحالي، إذ رصدت الأقمار الصناعية وشركة جيرجون المتخصصة في المصادر المفتوحة ومقرها هولندا زيادة في حركة طائرة النقل الروسية “إليوشن 76″ قبل يومين من بدء الصراع، فضلا عن زيادة غير عادية في نشاط قواعد فاغنر في المنطقة، بما يشمل شحنات نقل روسية من اللاذقية في سوريا حيث تمتلك روسيا قاعدة جوية رئيسية، إلى قاعدتين جويتين ليبيتين يستخدمهما مرتزقة فاغنر.

بالنظر إلى التاريخ القائم للعلاقات لكل من قوات حميدتي وفاغنر مع حفتر، لا يُستبعد وقوف فاغنر التي أرسلت في السابق عربات مدرعة إلى السودان مقابل امتيازات تعدين الذهب المربحة خلف المساعدات العسكرية القادمة إلى قوات الدعم السريع من ليبيا، هذا ويشير تحقيق حديث لـ”سي إن إن” إن المجموعة نقلت بالفعل صواريخ مضادة للطائرات إلى قوات الدعم السريع في السودان لدعمها في مواجتها القائمة حاليا مع الجيش.

في أقل من عقد من الزمن، أضحى الروس لاعبين نافذين في القارة السمراء، ورغم استنزافهم في أوكرانيا، فإنهم يعملون على قدم وساق من أجل الحصول على نفوذ أكبر يزاحمون به الولايات المتحدة والغرب. وتُعَدُّ أداتهم العسكرية لتعزيز النفوذ الروسي في القارة هي مجموعة فاغنر، حيث أنشأت المجموعة موطئ قدم لها في جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وموزمبيق ومالي والسودان، وعدد من دول القارة. ومقابل توفير حكومات هذه الدول للروس إمكانية الوصول إلى مناجم الذهب القيمة وصفقات الأسلحة قدَّمت المجموعة خدمات عسكرية عديدة، ففي جمهورية أفريقيا الوسطى دعم المئات ممن يُطلق عليهم “المدربون الروس” القوات الحكومية في الحرب الأهلية الجارية، وفي مالي جلب المجلس العسكري الموالي لروسيا المئات من مقاتلي فاغنر إلى البلاد، وألقت روسيا وفاغنر بثقلهما وراء الجيش المالي في عام 2021 عندما دبر انقلابا وأطاح بحليف موالٍ لفرنسا.

وحدها الأيام ستكشف النطاق الحقيقي لمشاركة فاغنر في الصراع الحالي في السودان، إذ يبدو أن المصالح الروسية في السودان لها دور في القتال الحالي ما انفك يظهر إلى النور. وفي بلد باتت موسكو تضعه على رأس أولوياتها في تأمين الوصول إلى موارد عديدة، من المُرجَّح أن تستمر فاغنر في محاولة تعديل الكفة لصالح حلفائها، أما عن لعبها دورا حاسما في الصراع من عدمه فلا يبدو راجحا حتى الآن، لا سيما مع تركيزها على أوكرانيا في المقام الأول، ومع فارق القوة النسبي في صالح الجيش الذي يبدو أنه يحشد أوراقه لتأمين انتصار عسكري في معركة ستشكل نتائجها معالم السياسة السودانية لسنوات طويلة قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى