هل حقا تمر ذكرياتنا أمام أعيننا خلال سكرات الموت؟ دراسة علمية تجيب على ذلك
تدوين نيوز – متابعة، لابد أنك سمعت من قبل عن تجارب “الاقتراب من الموت” (NDES)، تلك التي يصفها العائدون إلى الحياة بعد اجتياز اللحظات الحرجة وهم على طاولات الإنعاش، بعضهم يقول إنه شاهد حياته تمر كشريط سينمائي أمام عينيه، البعض الآخر قابلوا أحبابهم الموتى والأحياء، غيرهم مروا بتجارب الانفصال عن الجسد وراقبوا الأطباء وفريق الممرضين وهم يحاولون إنقاذهم.
قصص كثيرة لكنها تظل حتى يومنا هذا مجرد هلوسات غير مؤكدة، خاصة أنه لا أحد عاد من الموت ليخبرنا الحقيقة. رغم ذلك يبدو أن تفاصيل اللحظات الأخيرة للاحتضار أكثر إثارة مما كنا نعتقد، هذا ما كشفه بحث جديد نُشر في دورية الأكاديمية الأميركية للعلوم (PNAS)، وفيه رصد العلماء لأول مرة بشكل متعمد دليلا على وعي نشط للغاية في أدمغة المحتضرين، بأنماط تشبه تلك التي يجري تتبعها في أحلام اليقظة والعملية المكثفة لاسترجاع الذكريات.
ما الذي يحدث في أدمغة المحتضرين بالضبط؟
يتراوح تردد موجات جاما بين 30 و100 هرتز وهي الموجات الدماغية الأعلى ترددًا والنشاط العصبي الأكثر شيوعًا عندما يتصل الناس بمركز الذاكرة الخاص بهم في منطقة الحُصين بالمخ. (شترستوك)بعدما يتوقف القلب ويعجز الجسد الحي عن التنفس، لا يموت الدماغ في التو واللحظة، بل على العكس من ذلك، هناك دقائق تمر بين توقف القلب وموت خلايا المخ. وحتى وقت قريب لم يعرف العلماء بالضبط ما الذي يحدث في تلك الدقائق، وذلك حتى جاءت الدراسة الأخيرة التي رصدت موجات كهربية قوية تندفع في الدماغ قبيل الموت، الأمر الذي يجعلك تتساءل هل يمكن لعملية الاحتضار أن تنشط الدماغ!
في ورقتها البحثية، التي نُشرت مؤخرا، قامت العالمة جيمو بورجيجين، الأستاذة المشاركة في قسم علم وظائف الأعضاء الجزيئي والتكاملي وقسم الأعصاب بجامعة ميتشجان، باستخدام جهاز قياس كهربائية الدماغ (EEG) بشكل متعمد، لمعرفة ماذا يحدث في الدماغ أثناء الامتثال للموت. وقد حصل الباحثون على إذن مراقبة أربعة مرضى محتضرين، كانوا جميعا في حالة غيبوبة تبعت سكتة قلبية ولا أمل لهم في الشفاء. تمت التجربة داخل غرفة العناية المركزة، وذلك بعدما تقرر إيقاف أجهزة دعم الحياة عن الحالات بإذن عائلاتهم.
بعد سحب أجهزة التنفس الصناعي، حفزت عملية نقص الأكسجين ارتفاع معدل ضربات القلب، وأظهرت نشاطا ملحوظا لموجات “جاما” في اثنين من المرضى. عادة ما يتم تصنيف الذبذبات الدماغية على أساس التردد والسعة، ويتراوح تردد موجات جاما بين 30-100 هرتز، وهي الموجات الدماغية الأعلى ترددا والنشاط العصبي الأكثر شيوعا عندما يتصل الناس بمركز الذاكرة الخاص بهم في منطقة الحُصين بالمخ. وتُعَدُّ هي الموجات المسؤولة عن حالة الإدراك الواعي، إذ يرتبط نشاط جاما العالي بعمليات الذاكرة والانتباه والتعلم والأداء المعرفي ومعالجة المعلومات.
تقول بورجيجين مؤلفة الدراسة في تصريح خاص لـ”ميدان”: “إن الأدمغة بقيت نشطة لمدة وصلت إلى 300 ثانية في أحد المرضى بعد إزالة دعامة التنفس، وهو كشف غير مسبوق”، وأضافت أن ما يحدث خلال تلك الثواني المعدودة هو انبثاق نشاط كهربائي غير عادي في جزء يُعرف باسم “المنطقة الساخنة” بالدماغ، وهي نقطة التقاء الفص الصدغي والجداري والقذالي باتجاه الجزء الخلفي من الدماغ خلف الأذن مباشرة.
النشاط المتزايد من الوعي قد يكون أكثر قوة في المحتضرين الأصحاء وصغار السن. (شترستوك)وعند سؤال الباحثة عما يعنيه هذا النشاط بالنسبة إلى الوعي البشري، أضافت: “هذا النشاط سبق أن بحثه علماء آخرون على البشر الأصحاء، وأظهر أنه مرتبط بالوعي البصري والإدراك الحسي والأحلام وحالات الخروج من الجسد”.
رغم وفاة المرضى الأربعة، وأنه ليس هناك وسيلة للتأكد مما شهدوه بالضبط، فإن دراسة بورجيجين الأخيرة تشير إلى حالة متزايدة من الوعي أثناء عملية الاحتضار. وتؤكد الباحثة أن تلك الحالة من الوعي قد تشمل استدعاء الذكريات الماضية، ورؤية أضواء أو سماع أصوات أشبه بتلك التي يذكرها عادة مَن مروا بتجارب الاقتراب من الموت.
الجدير بالذكر أن بورجيجين بدأت أبحاثها على تجربة الاحتضار عام 2013، عندما أخضعت مجموعة من فئران التجارب لأجهزة قياس كهربائية الدماغ أثناء تعرضهم للسكتة القلبية، وقد أظهرت الدراسة السابقة زيادة في نشاط ذبذبات “جاما” المسؤولة عن الوعي داخل أدمغة 100% من الفئران موضوع البحث، وقد استمر هذا النشاط لمدة وصلت إلى 30 ثانية بعد توقف القلب، وهي تقريبا النتيجة نفسها التي توصلت إليها بورجيجين في بحثها الأخير على المحتضرين من البشر.
عن ذلك تقول لـ”ميدان”: “في حالة دراسة 2013، كانت الفئران موضوع البحث صغيرة السن وتتمتع جميعها بصحة جيدة، وذلك على عكس الدراسة الحديثة التي أُجريت على أشخاص مرضى بالأساس وفي حالة غيبوبة نتيجة تعرضهم لنوبات قلبية متعددة، مما يعني أن هذا النشاط المتزايد من الوعي قد يكون أكثر قوة في المحتضرين الأصحاء وصغار السن”.
في الاحتضار.. قد تومض حياتك أمام عينيك
يستعيد الإنسان جزءًا من ذكريات حياته أثناء الاحتضار؛ وهو ما يعرف باسم «ظاهرة استدعاء الحياة». (شترستوك)لم تكن تجربة بورجيجين هي الأولى من نوعها التي يخضع فيها شخص محتضر لقياس كهربائية الدماغ، ففي عام 2022، أدى الموت المفاجئ لرجل كندي أثناء خضوعه لفحص دماغي روتيني إلى أن يتمكن مجموعة من الأطباء عن طريق الخطأ من التقاط بيانات فريدة من نوعها ومراقبة نشاط الدماغ البشري أثناء الاحتضار لأول مرة. كان الرجل مسنا يبلغ من العمر 87 عاما، وبعد توقف قلبه أثناء الفحص، لوحظ نشاط غير عادي في كهربائية الدماغ.
أثناء الفحص سجل الباحثون نحو 900 ثانية من نشاط الدماغ قبيل وبعد الوفاة، لكنهم ركزوا جهود بحثهم على آخر 60 ثانية، إذ فحصوا الـ30 ثانية التي سبقت توقف قلب المريض عن إمداد الدماغ بالدم، وفيها وجدوا أن الدماغ اتبع الأنماط العصبية نفسها التي يتبعها في حالات التركيز الشديد والحلم واستدعاء الذاكرة، وهو النشاط الذي استمر لـ30 ثانية أخرى تلت توقف قلب المريض عن النبض.
سمح لهم ذلك بمعرفة الكيفية التي تغيرت بها الذبذبات الدماغية قبل وأثناء الموت، وقد جمع الفريق البحثي حينذاك بيانات عن مختلف أنواع الذبذبات التي تطلقها الخلايا العصبية، بما في ذلك موجات دلتا وثيتا وألفا وبيتا، لكنهم لاحظوا تغيُّرا غير عادي في نشاط موجات جاما داخل دماغ المريض. هذا النشاط الدماغي كان الدليل الأول الملموس على أن الرجل يستعيد جزءا من ذكريات حياته أثناء الاحتضار، وهو ما يُعرف باسم “ظاهرة استدعاء الحياة”.
يشير الدكتور أجمل زمار، مؤلف الدراسة وجراح الأعصاب بجامعة لويزفيل بالولايات المتحدة، إلى أن تلك الحادثة تُعَدُّ هي التجربة الأولى من نوعها التي تقدم دليلا علميا على عملية استرجاع الذكريات في اللحظات الأخيرة من الحياة، لكن نظرا لكونها الحالة الوحيدة التي قدمتها الدراسة حينذاك، وأن الرجل المحتضر كان مُسِنا ومصابا بالصرع المعروف بتأثيره على نشاط موجات جاما، لم يكن العلماء واثقين من مدى شيوع تلك الظاهرة، خاصة مع عدم وجود طريقة للتأكد مما إذا كان الرجل يرى بالفعل ذكرياته الماضية ويدركها أم أنه في حالة تشبه الحلم بسبب نظامه العصبي المضطرب بالأساس.
لذا رغم أن الباحثين حققوا هذا الاكتشاف المذهل عام 2016، لم يُنشر التقرير عن حالة الرجل إلا بعد مرور ست سنوات من وفاته، إذ كانوا يأملون في دراسة المزيد من الأدمغة المحتضرة لدعم مزاعمهم، لكنهم استسلموا في النهاية ونشروا دراستهم عن الحالة الوحيدة في مجلة “فرونتيرز” الطبية المختصة بعلم الأعصاب عام 2022.
تجارب الاقتراب من الموت
ليست كل تجارب الاقتراب من الموت سعيدة، فبعضها يمكن أن يكون مخيفًا ويتميز بالشعور بالألم والوحدة واليأس. (شترستوك)وصف الكاتب الشهير إرنست همنغواي ما يحدث أثناء الاحتضار في قصة قصيرة معروفة باسم “ثلوج كليمنجارو”، وتحكي عن رحلة سفاري يعاني فيها البطل من الغرغرينا ويصف لحظات خروج الروح من الجسد بأنها لحظات يتوقف فيها الألم ويشعر فيها المرء بالهدوء والسكينة. كان ذلك محاكاة لقصة إصابة همنغواي نفسه بقذيفة إبان أحداث الحرب العالمية الأولى.
الغريب والمثير للاهتمام في الوقت ذاته أن ما حكاه همنغواي هو الوصف الكلاسيكي الأدق لما كشف عنه تقرير نُشر بمجلة العلوم الأميركية (Scientific American) عام 2020، ويحكي عن طريقة عمل المخ أثناء المرور بتجارب الاقتراب من الموت، إذ يشير إلى أن انخفاض تدفق الأكسجين في الدم عادة ما يقترن بأحاسيس إيجابية ومبهجة، بحسب التجارب المبلغ عنها، ولا يكون مسببا للهلع في أغلب الحالات، وهو ما عُدَّ لغزا وأمرا محيرا.
وفقا للتقرير، واحد من بين كل 10 مرضى مصابين بالسكتة القلبية في المستشفيات يخضع لمثل هذه النوبات، وعادة ما يكون لدى الناجين الكثير من القصص والحكايات عن العودة من حافة الموت، التي تتضمن رؤيتهم وسماعهم أشياء غير مبررة أثناء فقدانهم للوعي، ويفسرونها وكأنها ولوج إلى العالم الآخر.
ترتبط هذه التجارب في الأغلب بشعور الخروج من الجسد أو الطفو إلى أعلى، ورؤية ضوء ساطع والشعور بالراحة، ورغم ذلك ليست كل تجارب الاقتراب من الموت سعيدة، فبعضها يمكن أن يكون مخيفا ويتميز بالشعور بالألم والوحدة واليأس، لكن يبدو أن هناك قلة ممن يقومون بالتبليغ عن مثل هذه التجارب السيئة. أما عن اختلاف هذه التجارب من شخص إلى آخر، فالسبب الأقرب هو أن العقل يروي القصة التي تشكَّلت من خلال تجربة الشخص وذاكرته وتوقعاته.
هناك حوالي ست دقائق تفصل بين توقف القلب عن النبض وموت الدماغ. بعدها يضيع الوعي وتضيع معه قدرتنا على الشعور والإدراك إلى الأبد. (شترستوك)وفقا لطبيب الأعصاب في جامعة كوبنهاغن دانيال كوندزيلا، فإن التفسير العلمي الأكثر احتمالية لتجارب الاقتراب من الموت قد يرجع إلى شيء يشبه “نوم حركة العين السريعة”، وهي حالة يمزج فيها الدماغ بين اليقظة وحالات الحلم، إذ يتميز نوم حركة العين السريعة بأنماط نشاط كهربائي للدماغ تشبه الاستيقاظ وتتداخل فيها موجات جاما مع غيرها من الموجات ذات التردد المنخفض.
يرى كوندزيلا أن هناك اختلافا جوهريا ما بين الأشخاص الذين نجوا للإبلاغ عن تجربة الاقتراب من الموت والأشخاص الذين ماتوا بالفعل، وهذا الاختلاف يكمن في أن أدمغة مَن نجوا لم تفقد وظيفتها بشكل دائم مثل الآخرين، وبالتالي من الصعب تحديد ما إذا كان الذين ماتوا قد مروا بالتجارب الذاتية نفسها أم لا.
بالنسبة إلى البروفيسور غيلوم تيري، أستاذ علم الأعصاب الإدراكي في جامعة بانجور البريطانية، فيشير إلى أن هناك نحو ست دقائق تفصل بين توقف القلب عن النبض وموت الدماغ، بعدها يضيع الوعي وتضيع معه قدرتنا على الشعور والإدراك إلى الأبد، وغالبا ما تحدث مثل هذه التجارب في الحد الزمني الفاصل بين موت القلب وموت الدماغ.
يتمثَّل أحد القيود الرئيسية للدراسات التي تبحث في “تجارب الاقتراب من الموت” -بحسب تيري- في أنها تركز كثيرا على طبيعة التجارب نفسها، وغالبا ما تتجاهل السياق الذي يسبقها. يقول تيري إنه صادف عددا من النظريات التي تحاول تفسير سبب وميض الحياة أمام أعين شخص ما بينما يستعد دماغه للموت، قد يكون السبب مجرد تأثير اصطناعي مرتبط بالاندفاع المفاجئ للنشاط العصبي في اللحظة التي يستعد فيها الدماغ للانغلاق، أو قد تكون تلك التجارب مجرد آلية دفاعية للجسم يحاول التغلب بها على الموت الوشيك، أو أنه رد فعل وراثي متجذر فينا. المؤكد أن الأبحاث في هذا النطاق لا تزال قليلة ومحدودة، وأنه لا يزال هناك الكثير مما لا نعرفه حول ما تكابده أدمغتنا في اللحظات القليلة التي ننتقل في من الحياة إلى الموت.