قصة قصيرة بعنوان “ثقبٌ أَسودُ، يشبهُ صدعَ الأَنهارِ الجليديَّةِ الَّذي لَا نهايةَ لهُ، ابتلعَنا معًا” للروائية الايرانية أزارين صادق
ترجمها الشاعر والباحث الفلسطيني د.محمَّد حِلمي الرِّيشة
تدوين نيوز – خاص
صاحَ زَميلي: “أَنا لَا أَشعرُ بذراعِكِ بعدَ الآنَ، أَرجوكِ! لَا تتحرَّكي. أَنتِ تقتُلينني”.
كانَ الجوُّ باردًا جدًّا، بحيثُ أَنَّ كلَّ نفسٍ مِن أَنفاسِهِ صنعَ سحابةً متجمِّدةً فِي الهواءِ، ولكنَّ جبهتَهُ كانتْ لَا تزالُ تَبدو رطبةً جدًّا، وعيناهُ تبدوانِ كبيرتينِ جدًّا. ماذَا لوْ كانَ متعبًا حقًّا؟ ماذَا لوْ أَنَّهُ لمْ يَعدْ متمسِّكًا بِي؟ شيءٌ رطبٌ سقطَ علَى شَعري، ولكنْ لمْ يكُنْ ندفَ ثلجٍ.
فكَّرتُ بأَنْ أَكرهَ الرِّجالَ الَّذينَ يتعرَّقونَ. همستُ مرَّةً أُخرى: “لَا تصرخْ”. أَلمْ يكُنْ يعرفُ أَنَّ صوتَهُ العاليَّ يمكنُ أَنْ يتسبَّبَ بانهيارٍ؟ لكنَّ النَّاسَ ليستْ لديهمْ أَيَّةُ سيطرةٍ علَى الطَّريقةِ الَّتي تصيبُهمْ بالهلعِ؛ إِنَّها الطَّريقةُ نفسُها الَّتي لَا يمكنُهمْ بِها أَنْ يوقِفوا تعرُّقهمْ.
لَا أَستطيعُ أَنْ أَتذكَّرَ فكرةَ مَنْ كانتْ للتَّنزُّهِ فِي هذَا المكانِ البعيدِ، وفِي آذارَ. لمْ أَكْن أَعرفُ، حقًّا، المشيَ معْ رجلٍ. أَلمْ يكُنْ أَبي يقولُ لِي دائمًا أَنْ أُعطي النَّاسَ فرصةً؟ كانَ يقولُ دائمًا: أَيُّ غريبٍ يمكنُ أَنْ يكونَ الرَّجلَ فِي حياتِكِ.
فكَّرتُ بأَنِّي أَكرهُكَ يَا أَبي، وبأَنِّي كرهتُ حيَاتي كلَّها، وبأَنَّ هذَا يتوقَّفُ، فقطْ، علَى هذَا الغريبِ بخاصَّةٍ.
قبلَ ساعاتٍ قليلةٍ فقطْ، كنَّا نتحدَّثُ بهدوءٍ حتَّى عنْ طريقةِ الموتِ الإِفريقيَّةِ، وكانَ قَلقي الوحيدُ حولَ لهجتهِ الغريبةِ، حتَّى أَنَّ الأَرضَ تحتَ أَقدامِنا فتحتْ ثقبًا أَسودَ، يشبهُ صدعَ الأَنهارِ الجليديَّةِ الَّذي لَا نهايةَ لهُ، ابتلعَنا معًا. بعدَها، لمْ أَتمكَّنْ بأَنْ أُفكِّرَ فِي أَيِّ شيءٍ آخرَ يمكنُ أَنْ أَجدَهُ فِي هذَا الفراغِ، بَينما كنتُ أَلفُّ، وأَدورُ، فِي محاولةٍ للإِمساكِ بأَيِّ شيءٍ يمكنُ أَنْ أَجدَهُ. الحمدُ لله، علَى الأَقلّ وجدتُ أَصابعَهُ، حقًّا قبلَ أَنْ يتورَّطَ هوَ، وأَنا أَيضًا.
أَكنتُ أَنزفُ؟ لمْ أَكترثْ. كانتْ فِكرتي الوحيدةُ عنِ الموتِ مِن دونِ أَنْ أَعرفَ مطلقًا عنِ الحبِّ الحقيقيِّ، وأَنا مدسوسةٌ فِي الجليدِ والثَّلجِ الذَّائبِ العذبِ.
صاحَ مرَّةً أُخرى: “لَا تتحرَّكي. إِنَّ الحركةَ تُؤذي ذِراعي”.
أَجبتُ بعذابٍ: “لَا أَتحرَّكُ، وسوفَ أَتجمَّدُ”. لكنَّ حرارةَ جَسدي أَذابتِ الجليدَ مِن حَولي. كانتْ نَبضاتي، وبَشرتي الدَّافئةُ، وعَلاماتي الأَخيرة للحياةِ الَّتي كانتْ علَى وشكِ أَنْ تَقتلني.
كنتُ مرتبكةً؛ أَسوأُ مِن ذلكَ، لمْ يَكنْ لديَّ أَيُّ شخصٍ آخرَ لإِلقاءِ اللَّومِ عليهِ. لمْ يَكنْ حقًّا خطأُ والدِي. كنتُ غادرتُ بيتَهُ منذُ وقتٍ طويلٍ. لَا يُمكنني حتَّى أَنْ أَلومَ هذَا المسكينَ، والَّذي كنتُ نسيتُ اسمَهُ. لَم أَكنْ جيَّدةً معَ الأَسماءِ، ولَا حتَّى جيَّدةً معَ الوجوهِ. اعتدتُ أَنْ أَنسى كلَّ شخصٍ، واعتادَ كلُّ شخصٍ أَنْ يَنساني.
كانَ الرَّجلُ ينتحبُ مثلَ أَرملةٍ، ولكنَّهُ كانَ يَبكي مثلَ فتًى. قالَ: “إِنَّهُ يسقطُ”.
أَكانَ يتحدَّثُ عنْ حذائهِ، أَو ربَّما عنْ هاتفهِ المحمولِ؟ مهمَا كانَ، فقدْ كانَ صلبًا جدًّا، أَصابَ أَنفي ولِساني وذقني، واختفَى فِي مكانٍ بعيدٍ عنْ متناولِ يَدي.
صاحَ بيأْسٍ: “لَا”. ثمَّ سقطَ سروالُه.
كانتِ بشرتهُ بيضاءَ جدًّا وبطنهُ، وهوَ بدينٌ أَيضًا، ولكنْ لَا يهمُّني بعدَ الآنَ. يمكنُ أَنْ أَشعرَ بذوبانِ الجليدِ تحتَ قدميَّ. يمكنُ أَنْ أَسمعَ التَّصدُّعاتِ. لمَّعَ حِذائي التَّأْثيرُ الباردُ للسُّقوطِ مثلَ نسيمٍ لطيفٍ.
ظننتُ بأَنَّني لمْ أَكنْ محظوظةً جدًّا فِي الحياةِ. لكنْ، كانَ مصيرً زَميلي أَسوأَ منِّي. علِقتْ ذراعهُ بينَ صخرتينِ، ووَزني سحبَهُ إِلى الأَسفل. كانتْ كتفهُ ستتمزَّقُ مِن مفصلِها. تعلّقتْ ساقاهُ فِي الهواءِ، كأنَّهُ رجلٌ حكمَ عليهِ بالإِعدامِ. كانُ جزؤهُ الأَفضلُ ذراعَهُ الأُخرى، ذراعَهُ الحرَّةَ فقطْ، تشابكتْ بِي. كنتُ عالقةً، فقطْ، فِي ذوبانِ الجليدِ، والطَّبيعةُ- واسعةً وفخمةً مثلَ فمِ ربٍّ- تحتِي.
المشهدُ، لَا تشوبهُ شائبةٌ.
قالَ: “تحتاجينَ إِلى التَّركيزِ يَا آنسة”.
هلْ نَاداني يَا آنسة؟
كانَ خجِلًا، وغيرَ متماسكٍ، وكلُّ وجههِ محمرًّا. قالَ محرَجًا: “عذرًا يَا آنسة، لكنْ حينَ أَكونَ عصبيًّا أَنسى أَسماءِ النَّاسِ”.
نظرتُ إليهِ، وتوقَّفتُ عنِ التَّظاهرِ بالتَّأَذِّي بسببِ نسيانهِ. “لَا تقلقْ. لقدْ نسيتُكَ كذلكَ”.
ارتجفَ شيءٌ حولَ خَصري. تجمَّدَ الجليدُ وانزلقتُ عميقًا. ارتفعَ الثَّلجُ إِلى صَدري. بدتْ ذِراعي السَّاكنةُ مثلَ شجرةٍ ميِّتةٍ، ومتجمِّدةً، وكانتْ أَصابعُ زَميلي تتشابكُ بنهاياتِ حيَاتي الأَخيرةِ. لمْ أَكنْ أَعرفُ مَن كانَ يتمسَّك بمَنْ. لمْ أَكنْ أَعرفُ كيفَ أَنَّ هذَا الوضعَ سيظلُّ قائمًا حتَّى.
حتَّى لوْ كنتٌ رسَّامةً، مَا كنتُ أَستطيعُ رسمَ مأْزقٍ غيرِ مستقرٍّ مثلَ هذَا.
همسَ: “اسمي ألفريد”. “ألفريد ماكغريغور الثَّالث”.
يومٌ جيَّدٌ للبشريَّةِ. أَعتقدُ بأَنَّهُ لنْ يكونَ مثلُكَ غبيًّا رابعًا. قلتُ وابتسمتُ: “أَنا أليسون لاكي الأُولى”.
شفتايَ متجمِّدتانِ.
قالَ بكثيرٍ منَ القلقِ: “لَا أَشعرُ بِذراعي”.
أَدليتُ ساقيَّ كمَا لوْ أَنَّني موجودةٌ فِي رقصٍ. أُقلِّدهُ. ضغطَ علَى يَدي كأَنَّهُ يُداعبها. قالَ: “لَا بأْسَ إِنْ كنتِ تريدينَ التَّحرُّكَ. لَا أُريدُ أَنْ تتجمَّدي”. ابتسمَ فِي وجهِي، قبلَ الكلماتِ المَهْمَهَةِ. بدَا صوتُه مثلَ لحنٍ، منذُ طُفولتي، حيثُ اعتادَ أَبي وأُمِّي الرَّقصَ عليهِ.
قالَ بصوتٍ ناعمٍ لإِراحتي: “إِنَّها أُغنيتي المفضَّلةُ”.
كنتُ صامتةً.
حدَّقَ فِي وَجهي، وعدتُ أُحدِّق فيهِ، وأُغنِّي.
الجحيمُ مَع الانهياراتِ الثَّلجيَّةِ. صرختُ بفرحٍ: إِنَّها أُغنيتي الشِّتائيَّةُ، كلُّ وَقتي المفضَّلُ”. فِي حينِ أَنَّهُ لهثَ بلوعةٍ، أَوْ ربَّما شعرَ بأَلمٍ تحديدًا.
قبلَ أَنْ تغلقَ جُهودي شفتيَّ، قصفَ الرَّعدُ، واهتزَّتِ الأرضُ. جلستِ الشَّمسُ تحتَ قدميَّ، وظهرَ القمرُ فوقَ رأْسِي. كانَ فَمي لَا يزالُ مفتوحًا باتِّساعٍ، بَينما الثَّلجُ المندفعُ بسرعةٍ يحلِّقُ فِي الدَّاخلِ، ويهزُّ النَّسيمُ صَوتي.
كانَ فصلُ الشِّتاءِ ينسابُ فِي حَلقي مثلَ أُغنيةِ حبٍّ صغيرةٍ.
* ولدت أزارين صادق في شاهي- إيران. كانت في العام (2010) مرشحة لجائزة “كيركوود” في جامعة كاليفورنيا. خلال الحرب الإيرانية- العراقية، غادرت إيران، ودرست علوم الحاسوب في فرنسا، ثم انتقلت لوس أنجلوس ونالت الدرجة الأولى في الكتابة الإبداعية. ظهرت أعمالها المطبوعة منذ العام (2007) على الشبكة العالمية. صدر لها “حدود مشتركة: قصص عن الهجرة”، ورواية “ملاحظة انتحار”.