” أوراق مبعثرة على طاولة الخال ” قراءة نقدية للناقد الليبي طارق الشرع لرواية ” خبز على طاولة الخال ميلاد ” الفائزة بجائزة البوكر العربية تأليف محمد النعاس
تدوين نيوز – خاص
تظل القضايا المحيطة بالأدب ونصوصه في محل خلاف دائم لأسباب عدة منها ما يرتبط بالنص من خلال موضوع العمل وتقييد حركته من الجوانب التاريخية والتسجيلية وأسباب أخرى ترتبط بفنون ومهارات الكتابة بناء على التجارب الأدبية المختلفة ، إلا أن أكثر ما يزعج المهتم بالفعل الأدبي تلك الأمور الخارجة عن النص والكتابة والتي تهدد أمن الكاتب وتقيد حريته فقط لأنها تعكس وجهة نظره في الحياة كما يعيشها مقابل النظرة الأيديولوجية للمتلقي ، وقد يصل الأمر هنا إلى حد القتل او التلويح به من بعض الدخلاء على القراءة ، ويحفل تاريخنا المعاصر بنماذج كثيرة قد يكون أهمها ما حدث للكاتب المصري نجيب محفوظ عندما تعرض لمحاولة اغتيال من قبل إنسان أمي لم يتعلم القراءة بعد ، في الجانب المقابل قد تبرز عقلية أخرى لا تقل عن سابقتها تخلفاً ، فمن ضمن الجوانب المظلمة الناتجة عن استدراج العمل الأدبي إلى فضاءات الابتزاز والمزايدات الرخيصة بسبب النزاعات الجانبية بعيدا عن القيمة الفنية للعمل ، تعمل أقلام كثيرة بوعي أو بدونه على تصدير اعمال متواضعة من حيث الجودة الفنية لتكون اعمال عظيمة مستغلة الحملات الساذجة غير المسؤولة على النص أولاً وبسبب وقوع بعض الكتاب والمهتمين في خلط الدفاع على النص كقيمة فنية عوضاً عن تحديد مسار الحوار حول حرية الكاتب واستقلالية النص ، إضافة إلى أن هذه الخلافات تستقطب جمهور واسع من القراء بدوافع مختلفة سيكون في مقدمتها الفضول كما أتصور ، فاكثر النصوص التي دار حولها الخلاف لم تكن الأفضل لكنها قد تكون الأجرأ ، فرواية وليمة لأعشاب البحر لم يكن في اعتقادي عمل استثنائي لكن الرواية حفلت بقراءة استثنائية بعد اكثر من عقد على نشرها ، واعمال نوال السعداوي يقرأها رجال الدين بعقلية المخبرين ورواية شفرة دافنشي ليست افضل اعمال دان براون لكنها وجدت أصوات مشابهة رغم اختلاف الأديان ، الامر ببساطة يتعلق بوضع معايير من خارج الأدب لتحديد الأفضل وفي النهاية سيكون العمل المتواضع والناشر اكثر المستفيدين والأدب اكثر المتضررين .
في اخر نسخ البوكر العربية افرزت لجنة المسابقة الروايات الأفضل حسب تقييمها وأعلنت في النهاية عن الرواية الفائزة بالجائزة السنوية وهي رواية ” خبز على طاولة الخال ميلاد ” (1) ، للكاتب الليبي محمد النعاس وفور الإعلان عن عنوان الرواية الفائزة ظهرت عاصفة من الانتقادات المختزلة والموسعة على صفحات التواصل الاجتماعي وبعض الصحف المحلية للرواية ولكاتبها حتى أن جزء من هذه الهجمات وصلت إلى درجة القذف والتهديد وهذا الأمر ليس له مكان في الأدب .
لا اعلم إن كان الأمر مجدي لكنني أعلن قبل الحديث عن النص أنني ضد مصادرة الأدب والكتابة لأسباب خارجة عن النص ، وأدعم حرية التعبير والكتابة وأنادي بضرورة إيقاف الابتزاز الأيديولوجي للأدب ، وهذا الامر لا يعني أن موقفي المدافع عن المبدأ يعكس دعمي المطلق للنصوص التي تتعرض للهجوم ، فهناك فاصل هام يتمثل في التمييز بين مبدأ حرية التعبير والكتابة وبين مستوى النص من الجانب الفني ، فهناك نصوص أدبية وجدت في الهجمات الساذجة على الأدب ملاذها بتحقيق شهرة واسعة وعائدات مادية كبيرة إضافة أنها اكتسبت مكانة أدبية جيدة ليس بفعل إمكانياتها الفنية وإنما بسبب الحالة العاطفية التي يخلفها الضجيج الإعلامي المثار على العمل وردود الأفعال التي تهتم بالأساس بحقوق الكاتب في التعبير .
الخال ميلاد
على طاولة الخال ثمة الكثير من الأوراق المبعثرة التي بإمكاننا تصفيفها بعيداً عن الصراعات الشخصية والتنظيرات الأيديولوجية ، أوراق تنتمي إلى عوالم الأدب والكتابة وتفتح فضاءات لطرح أسئلة موضوعية حول إنتاج العمل الأدبي ، وقبل الشروع في جمع بعضاً منها لطرح أسئلتنا سنقوم أولا بعرض موجز للفكرة العامة للرواية والجوانب الفنية التي كونتها من عدة زوايا ، منطلقين دائماً من العناصر التي أثرت بنسبة كبيرة على تشكل الرواية .
رواية ” خبز على طاولة الخال ميلاد ” من الروايات التي تهتم بعرض الحالة من خلال شخصية محورية وحيدة تتجمع حولها الشخصيات والأحداث لارتباطها بحياة الشخصية وهي تقنية تنتهجها باستمرار الكتابة السيرذاتية ، رغم اختلاف هذا العمل عن كتابة السيرة كما سنوضح فيما بعد ، وبكل تأكيد أن وجود هذه الرواية في مقدمة جائزة بحجم البوكر العربية لم يحدث بمحض الصدفة ، فمهما كان الاختلاف حول الرواية فإنها ستحتفظ بجوانب مشرقة أوصلتها لهذا المقام كما حققت لها جزء كبير من الانتشار والقبول بين جمهور القراء .
تتمظهر أهم عوامل نجاح العمل كما اعتقد في تشكيل الشخصية المحورية ( ميلاد ) وطريقة تعاملها مع الأحداث من حولها لاسيما ونحن نتحدث عن شخصية محملة بمركبات ثقافية مغايرة عن المجتمع الذي تعيش فيه ابتداء من والده ومرورا بابن عمه وصديقه المقرب ( العبسي ) ، ووصولا إلى زوجته ( زينب ) التي عكس حضورها عبر علاقة الحب والزواج مقولات متعددة قد تكون أهمها ( الجنس والخيانة والانتقام ) .
يحدث هذا الأمر في مجتمع ذكوري مكتظ بالعقد والممارسات المتخلفة وتقوم العلاقات بين افراده وفق معايير القوة عبر الممارسات الانتهازية كالإقصاء والاستبداد، وفي المقابل تعيش الشخصية المحورية حياة مختلفة ، تبدو للمحيطين به حياة وهن وضعف بينما ينشغل ميلاد بحالة عشق ووجد منفردة مع العجين لإنتاج خبز مختلف ، من هنا ستكون علاقة بطل العمل بالخبز في الرواية أهم مصدر لإنتاج الصور السردية والمقولات الفلسفية والرؤي الاقتصادية والاجتماعية والعبر الانسانية ، الخبز في الرواية تميمة النص وسر تفوقه لأنه يقودنا لعوالم لم نعهد حضورها باستمرار في كتابة الرواية المحلية ويولد جمل غير محددة من التفاصيل الدقيقة ، العجين والخبز مصدر استدراج القراءة الأول لأنها جسدت حالة غريبة اسوة بما فعله العطر في رواية زوسكيند ، لكنني أعتقد أن الرواية وقعت في فخ الاهتمام المفرط بهذه الحالة بعد أن تحولت إلى عمل أشبه بالتسجيلي عبر انشغالها بأدق التفاصيل المتعلقة بعجن الخبز في مساحات كبيرة من السرد ، فلم تكتفى بمرحلة محددة من الرواية وإنما امتدت إلى أخر أجزائها وعوضاً عن إثراء أحداث الرواية بهيام الخباز وشغفه بصناعة الخبز انصرف العمل نحو الاهتمام بمقادير الخبز والكعك ومعجونات أخرى ، حتى اننا نلاحظ أحيانا أن الرواية تبحث عن مساحات فقط من أجل الحديث عن هذه الأمور والتعمق في تفاصيلها ، فلم نعد هنا نتحدث عن الخباز وإنما عن الخبز ومراحل تشكله ومقاديره .
بإمكاننا التفاعل مع الانشطار في سلوك بطل الرواية (الواعي والكامن ) بين بيئته المنزلية وسط شقيقاته وبين محيطه في المخبز وفي جلسات السكر مع أبن عمه ، بين ثقافة الإناث وممارساتهن السرية في مقابل العالم الذكوري بتفاصيله العلنية ، ويحدث هذا الأمر في حضور والده بجيناته وأحلامه الشرقية والذي كان يسعى إلى نحت جسد صلب وروح قوية ؛ فالتقابل في السلوك يفتح فضاءات جيدة لطرح الأسئلة وإثراء العمل ، لكن التقابل في تركيبة الشخصية الفكرية والجسدية يربك العمل ويشوه ملامح الشخصية بسبب تكوين مرجعيات مادية مقدمة مسبقاً ، حيث أن انتاج الشخصية المحورية خلف علامات استفهام أهمها طبيعة التكوين الجسدي والنفسي لهذه الشخصية ، لنكتشف أثناء قراءتنا للرواية أن بطل العمل ( ميلاد ) الخباز الذى قدمه العمل على أنه أمضى حياته في حمل الدقيق ومصارعة نيران المخبز والاكتواء بلهيبها والوقوف ساعات طويلة من أجل العجن ، ميلاد الذي أنفق جزء من وقته في حمل الحجارة وترميم ( براكة ) العبسي والقيام بمجهودات عضلية بشكل مستمر؛ هو في الحقيقية شخصية ضعيفة بدنيا ، يسقط وينهار أثناء تأدية الفروض العسكرية ويفكر في الانتحار لعدم قدرته على مواجهة آلام التعذيب ، ميلاد الضعيف كما يصفه ( المادونا ) يعجز عن تحمل الضغوطات الجسدية رغم تجربته الكبيرة في مهنة التعب والشقاء ، فهناك اختلاف واضح بين الثقافة الاجتماعية المرتبكة بتناقضاتها التي شكلت شخصية البطل ومدى تأثيرها عليه وبين التكون الجسدي لبطل الرواية وارتباطها بممارساته وافعاله اليومية أثناء القيام بأي نشاط عضلي حيث أن هذا الأمر يتعلق بتركيب الشخصية ويشكل منطق تعامله مع الأحداث والتفاصيل من حوله ، ورغم أن مهنة الخباز بالشكل المطروح في الرواية تكتسب سمات سحرية بامتلاكها لمزدوج القوة العضلية مقابل الإحساس المفرط والنعومة اثناء تشكيل العجين وهو ما يدعم محاكاتها للانقسام في المجتمع الذي يعيش فيه شخوص العمل إلا أن الإمكانيات الجسدية المكتسبة من الأعمال المرهقة تحدد طبيعة وشكل الشخصية كما افترضها العمل الروائي .
زينب أيضا شخصية مضللة ومربكة في نفس الوقت بفعل التناقض في تركيبتها الشخصية وسلوكها ، ولن يجد القارئ صعوبة كبيرة في الكشف عن جزء من التناقض في هذه التركيبة منذ القراءة الأولى ، حيث أن الشخصية التي نتحدث عنها هي إفراز لعائلة محافظة ، فزينب خجولة تنظر إلى الأرض أثناء رجوعها من الدراسة متجاهلة نظرات المشاكسين عندما تكون في كامل اناقتها و تسمح لميلاد بتقبيلها وممارسة الجنس معها في فترة مبكرة من علاقتها به ، زينب تحافظ على صلاتها وفي مناسبة أخرى تسعى لخلع حجابها وتدخن وتشرب النبيذ بدون دوافع استثنائية .
إن التناقض والتغير في سلوكيات البشر أمر معتاد لكن الكائنات الورقية دائماً ما تقدم تبريراتها للممارسات والأفعال المختلفة في العمل الأدبي لتشكيل وجهة نظر العمل ، وفي الرواية التي نتحدث عنها نعتاد تجاهل التفاصيل الصغيرة رغم أهميتها في القصة لاسيما ونحن نتحدث عن رواية تقوم على وصف أدق التفاصيل المحيطة بالشخصية المحورية والتي تشكل أحد مصادر الرواية لتقديم رؤى ابطاله ، في المقابل انشغل العمل بتقديم تفاصيل أخرى تبدو لي ، ولا نقصد هنا الإشارة إلى الخبز والعجين فحسب وإنما تفاصيل ترتبط ببيئة العمل والمفردات المستخدمة كتكرار استخدام الملابس الداخلية بالتسمية المحلية ( الموتنادى ) سبع مرات في الرواية دون الحاجة لذلك كما تصور لعدم وجود بيئة تستدرج مفردات مقابلة .
تم اسناد الحكي في الرواية إلى ضمير المخاطب ، وهو ضمير مراوغ جدا ، حتى إنه قد لايكتفي بمراوغة متلقيه فقط وإنما بكاتب العمل نفسه ، حيث أن هذا الضمير يعمل في مناطق معقدة بين ضميري السرد الأكثر شيوعاً ( الغائب والمتكلم ) وبإمكانه رواية الأقوال والأفعال بشكل حر وسلس ، فالمخاطب مثلا ً يستفيد من تجربة المتكلم في استدراج الكلام للحاضر وفي ذات الوقت يشترك مع الغائب في إيجاد وسيط اثناء السرد ، وعلينا معرفة أن التركيز في اختيار ضمير الحكي يجب أن يحتل صدارة اهتمام الكاتب ، والمخاطب كغيره من الضمائر الأخرى قد يكون خيار مساعد في انتاج العمل بالشكل الأمثل وقد يكون خيار مربك للعمل ولأحداثه الكبيرة وتفاصيله البسيطة ، وأظن أن الاعمال الكبيرة تستمد قيمها الكبرى من مثل هذه التفاصيل التي تبدو ثانوية للمتلقي ، الأمر المهم هنا أن لا تكون كذلك بالنسبة للكاتب في مرحلة تكوينه للعمل السردي ، وينطبق الامر على اهتمام الكاتب بزمن الرواية وكيفية توزيع احداثها وفق نظام زمني محدد لرسم شكلها الفني وللاستفادة من هذا التكنيك لتقديم إضافات متنوعة على كافة المستويات .
في رواية ( البطل المتكتم ) على سبيل المثال يقدم الكاتب العالمي يوسا شخصياته واحداثه بشكل متتالي وبسيط عبر زمنين مستقلين تسير من خلالها الاحداث بشكل متوازي فصل بفصل ، ويستمر هذا العمل حتى نهاية الرواية علماً بأن يوسا كان يروي احداثه بضمير الغائب مستعينا بالسارد العليم وهي تقنية سردية باتت معلومة عند القارئ اليوم .
في رواية ( خبز على طاولة الخال ميلاد ) يقوم منطق السرد على تقديم احداث الرواية في منظومة زمنية غير منتظمة ، تكون متداخلة واحيانا متعاقبة وفي بعض الأحيان تكون خطوط السرد متجاورة الأمر الذي يؤشر إلى خلق حالة من التوتر بسبب ما كان يعانيه البطل بعد قتله لزوجته وجلوسه من اجل استعادة ذكريات حياته وسردها لمخرج سينمائي غير مبال بمصير زوجته ، حيث أن السارد بدأ روايته من النهاية وهو ما يعني أنه سيطر على زمن الرواية وافترض نهايتها منذ البداية وتفرغ لتغطية مساحتها بواسطة صوت يتحدث بدون انقطاع لمستمع مفترض ( المخرج ) ، هنا اعتقد بأن اختيار الضمير اربك العمل لأن الضمير الفعلي لرواية العمل هو ضمير (المتكلم) لتوفر الشخصية المحورية في حالة السرد واختيار المخاطب دفع بكاتب العمل لخوض قصة هامشية تتعلق “بافتراض” وصول سينمائي من طرف ” المدام ” إلى البيت ليستمع لقصة ميلاد ، وهنا سيواجه السارد بعض المآزق في مقدمتها علاقته المزعومة بالمستمع حيث أن هناك بعض المعلومات التي يقدمها السارد من المفترض أن يكون السينمائي على علم بها فمثلا يقدم ميلاد المدام التي من المفترض أن السينمائي على صلة بها على نحو مختلف يحيلنا إلى عدم وجود علاقة سابقة بين السينمائي والمدام :
” دخلت زينب الغرفة ، كانت صحبتها المدام ، تلميذتي في الطهي وتحضير المخبوزات “
رغم التشابه في استخدامات الضمائر لكن لكل ضمير استعمالاته الخاصة به ولن يكون المخاطب متكلماً وإن اشتركا في بعض الخصائص ، من سمات المتكلم الاستغراق في التفاصيل بفعل جرده لأحداث صغيرة ومشاهدات ثانوية إضافة إلى أن المروي له غير محدد لأنه في الحقيقة كذلك ، أما في المخاطب فالمروي له معلوم و محدد بفعل تعيين تاريخه عبر هيئته وشكله ومواصفاته وطبيعة تواصله مع الراوي ، كل هذه العوامل وغيرها تقيد مساحة السرد ، وأتصور بأن الرواية التي تهتم بسرد غير محدد للأحداث والأخبار تجد ضالتها في أسناد الحكي لضمير المتكلم الذي بإمكانه أن يخوض في كل التفاصيل دون قيود ترتبط بالمروى له ، وفي روايتنا لن يكون علينا الحديث عن وجود سينمائي يستمع لقصة ميلاد لأن المروي له الفعلي يهتم بأدق تفاصيل الرواية ، يهتم بحياة ميلاد واغترابه داخل مجتمع معقد يهتم بأهواء زينب وصخب العبسي وقسوة مادونا وانكسار الشقيقات وحلم الأب ، يهتم بالتفاصيل الجنسية والقيم الاجتماعية بسلبياتها وإيجابياتها ، كل هذه النقاط وغيرها في الرواية تكتفي بمتكلم حر لا يروي لأحد لأنه يروي للجميع دون الخوض في عناء البحث عن مروي له ( السينمائي ) وتبرير وجوده بقصة هامشية لاترتبط بمتن العمل .