أوبنهايمر، البطل المُذنِب أو عبقرية اختراع الموت الجديد

قراءة سينمائية للكاتب المصري السعيد عبدالغني

الكاتب السعيد عبدالغني

تدوين نيوز .خاص

يعود باستمرار كريستوفر نولان بأفلام لها الاسئلة الوجودية والماورائية والفلسفية ولكنها في ثياب من الجرافيك والالوان والوقائع التي حدثت في العالم، وهذا من أقوى مميزاته، عدم الرتابة التي يتم وصف بها هذه المواضيع باستمرار.
بل الحداثة في التناول لأقوى المواضيع على مر الزمن فيما يتعلق بالمعنى أو الفوضى أو الذات الإنسانية وطبيعتها أو العنف أو الذاكرة أو الشر غير المبرر أو الوعي.. إلخ، لطالما أفلامه ألغاز لا يمكن تبني وجهة نظر واحدة وشاملة بدقة شديدة عنها، ولا يمكن حسم القصد ابدا لمن يبحث عن دلالة واحدة.
بين التعاطف المتذبذب والأحكام الإنسانية والمنطق، تتعاطف أحيانا مع أوبنهايمر وتحكم إنسانية بعدها بدمار العالم من خلال القنبلة الذرية والمنطق بعدها بوجود الكثير من الأبعاد الوحشية في النفس الإنسانية والاعتراف بذلك ورفض أيضا ذلك فعليا وشعوريا، مثل الجوكر وكلامه المنطقي والنفسي وباتمان بطل الحير المحرَج.
وهذا أحيانا كثيرة بسبب غموضه وحجبه حياته الشخصية عن الميديا التي لا يتم الالتقاط منها إلا أنه نصف إنجليزي ونصف أمريكي، تنقل بينهما طوال حياته، ودرس الادب واستخدم الكاميرا منذ صغره.
أفلامه يرويها بطريقته الخاصة وغالبا ما يكتبها هو مع بعض فريقه شبه الدائم، من أخيه وزوجته.
ففارس الظلام ٢٠٠٨ تم استخدام فيه شخصيات باتمان والجوكر من الكوميك، وأوبنهايمر تم استخدام فيه شخصية عالم الفيزياء وأبو القنبلة الذرية أوبنهايمر.

اكتشاف عنف كامل مجهول في الفضاء
لطالما شاهدت لأنواع مختلفة من الرعب الصافي في اللوحات أو الأفلام لكن الرعب الذي كونته المشاهد تلك، النيران المضخمة المقلَدة لنيران الفضاء، الذي لا يوجد فيها أي شيء غيرها ولا يتداخل معها غيرها، واتصال ذلك في كون نحن فيه، ويصنع الإنسان نفسه هذا أيضا أمر أثارني باضطراب جمالي وخوف، فهذا الشكل العنيف للنيازك والنجوم والثقوب السوداء والاثير أصبح مرئيا من خلال الكثير من الأدوات لإنسان العصر الحديث عكس منذ قرن مثلا.
فالتغني حتى الشعري فقط بالجمال للسماوات والفضاء والليل المنور. فهذا عنف تم إدراكه مؤخرا من وجهة نظر ما، مع وجهات النظر الأخرى.
أن أجلس على كرسي أشاهد فيلما وانا بالفعل منذ وُلدت فوقي كون كامل لا أعرف عنه شيئا، لم أره، لا أتصور قوته، لا أتصور فوضاه ونظامه والغازه.
فأنواع العنف كثيرة حتى التي لا تظهر فيها الأشياء المادية من النيران وغيره بل أيضا العنف الذي يحدث في داخل أوبنهايمر.

البطل المذنب والمعذب ببطولته
يتعود المشاهد على البطل الذي يواجه شكل واحد من التيمة وهي أنه يقاوم شر ما مع اختلافات السياقات، الجديد عند كريستوفر نولان هو تكوينه للبطل المذنب حتى لو ليس تجاه البعض لكن تجاه نفسه، التردد والاضطراب الذي يستهدف النفس الإنسانية نفسها وعدم وضوحها ووجود الشكل المطلق للخير أو للشر.
البطل الذي يشك في بطولته رغم وجود مناصرين كثيرين جدا، لا يردعه عن الشك في أفعاله، التي يفعلها أيضا في النهاية، وهو يعرف في حالة أوبنهايمر استغلال السياسة لأفعاله، مهما حاول السيطرة على مستقبل إنجازه.
الاستخدام السياسي للعلم ليس هو ذنب العلم
إنه ربما أداة للسلطة الاقوى التي تهيمن أيا كانت هي، ولم يصمد حتى دفاعه عن استخدام إنجازه للحظات بعد الطمأنينة لقوله كل شيء عن إنجازه نفسه وعدم أهميته إلا كذاكرة يجب حمايتها لكي لا تسرب المعلومات لدولة أخرى. بل واستغلال البعض في مشاعر شخصية لمحوه ومحو فعله نفسه، فهذه الخدمة لا تخلو الذنب.
يؤثر الاضطراب عليه في أثناء كثيرة يجعله لا يقاوم من يحاول سرقة صناعته للقنبلة، لكي يعاقب نفسه على صناعته لها! ربما أن لا تنتسب له فيما بعد، أو يخسر عبقريته التي يشيدون بها ويحملها أحد آخر وهم كثر مستعدين على حمل ما هو مضطرب هو في حمله.
الذي يظهر أكثر الشخصية أو الاتساع الذي يتم فيه التردد، هو أنه عالم فيزياء ليس عسكريا كمن حوله، يفعلون الأشياء بلا تردد مهما كان مكلفا.
ماضيه الشيوعي أيضا وصديقته الشيوعية التي ترك يدها وهي تحتاج له وانتحرت لكي يكمل مشروعه العلمي.
يتجه ويتجه بكامل قواه نحو القنبلة لكنه يتألم كثيرا في الطريق وفي النهاية، لم تستلبه هذه المواقف من حتمية صناعته لها، الذهان المتواصل والتخيل لصديقته، محو الضوء للوجوه كفعل القنبلة، عيناه الجاحظة باستمرار، وفي المقابل الاثير والنجوم وحركتهما، حركة النيران العنيفة اللانهائية، حياته ودقة ملاحظاته لكل ما يتعلق بالانفجار، أفعال السقوط لحبات المطر في البحيرة.

العبقريات لا تحيا في طمأنينة

القدرة أحيانا تعذب جدا، أي قدرة مفارقة للقدرات العادية حتى لو لم تكن إنجازاتها قنابل أو أدوات تدمير.
القدرة تلك تستفرغ ذاتها كليا، تحييه في اضطرابات شديدة، وفي حالتنا أوبنهايمر ربما لا يمكن مقاومتها، حتى بمعرفة حجم تدميرها للقليل أو العالم نفسه.
هذا يحدث دوما وباستمرار في السياقات التي تروى بها القصص من وجهات نظر كثيرة وبلا أيديلوجيا، ثمة عطش عند الإنسان للاكتشاف، للفعل، فعل التدمير وفعل الخلق أيضا(بناء مدينة لصناعة قنبلة تدمر مدينة أخرى)، العنف الذي لا يمكن تبريره منطقيا أو لغويا داخله.
الذي يظهر ذلك هنا هو قوة الأداة، القنبلة، لا الأمر نفسه، لأنه منتشر بالفعل دوما وكثيرا.

أدوات الحداثة في التدمير
إن نوع التدمير الجديد أو التدمير العلمي الحديث هو اقوى ومختلف عن أي نوع تدمير آخر لأنه:
١.يتعامل مع ما هو موجود ومباشر لوجود الانسان نفسه وهو يطرح الكثير من الاسئلة كونه دليل على مادية الإنسان بالبداهة اولا، فلا يمكن أن يحيا اي شيء بلا جسد اولا لكي يفعل أي شيء آخر.
٢.الشر الفريد أو المختلف وهو عدم خوض أحد طرفي النزاع شكل الحروب القديمة من الاساس، وحتى من هم خارج النزاع، فاحتمالية ليس الفوز بل المقاومة حتى معدومة، والاكثر هو احتمالية معرفة من الاساس اختيار المقاومة أو لا.
فمن يحمل الأداة يحمل القوة المطلقة التي تنسب في الكثير من الأحيان إلى الله مع شتى الاختلافات الدينية، لكنها محققة فعلا.
٣. أنها تلغي من الاساس استمتاع المنتصر صاحب الأداة بأي شيء من تركة المهزوم، حتى مكانه يظل بإشعاعات طويلة المدى وخطيرة، إنه انتصار مقنن الغنائم.
عطش الإنسان المستمر لفعل ما لا يتخيله هو نفسه، وما لا يتخيل نتائجه، عطشه للسيادة، عطشه للمعرفة حتى لو كانت على حساب المعرفة نفسها أو استمراره في المعرفة أو حساب آخرين أو هو نفسه، واستمراره في حركته مهما كانت المشاريع ضخمة تحركه المشاعر البدائية، الحقد، الامتلاك، السيادة، وربما على مستوى أعلى شعبيا.

التدليس المتعمد لتشويه سمعة العلم
ليس الأمر هو العلم نفسه، الأمر في استخدام الأدوات، لأن الخطاب ذاك يوجه ضد العلم، كونه هو القادر الوحيد على فعل ذاك، وكونه يزعزع سلطات أخرى كثيرة في مواضيع أخرى، فيتم تصدير ذلك كنوع من التدليس وتضييق الدلالة على أن هذا هو العلم فقط.
لأن العلم نفسه لا يقول شيئا، لا يفعل شيئا وحده، إنما يتم استخدامه من قبل أشخاص في الأغلب إن لم يكن في المطلق في حالات أدوات التدمير بشكل خاص بلا أية معايير سوى المنفعة لصاحبه أو مستخدمه.
فيتم استهجان العلم لا استهجان النفس الإنسانية نفسها لعدم مواجهة سؤال طبيعتها الوحشية من بعد ما، وليس خيريتها بالاطلاق.
ويجر بعد ذلك المصطلح(العلم) نحو الكثير من الأمور الأخرى فلسفيا، ويتم استخدامه في الحالة تلك للتشويه.
بينما الأمر في مستخدمه أي الإنسان، لهذا كريستوفر نولان دائم التوجيه للنفس الإنسانية، لكشفها، لتعريتها، لبيان هذا المجهول الكبير الذي يمكن منه الوصول لكل هذا الدمار أو كل هذا الجمال.

العبقرية لا تضمن الحكمة
يصور كريستوفر نولان ذلك ويقول بشكل واضح أن العبقرية لا تضمن أن تكون حكيما، أينشتاين لديه حكمة أعلنها في النهاية وتنبؤ بما سيفعله الناس حول أوبنهايمر، هذا خارج قدرته وعلمه الفيزيائي ولعل ذلك النوع الأساسي من الحكمة التي يمكن أن تحمي العبقرية أو تضمن لها استمرارها أو التي تسوق لها.
كلمات أينشتاين واضحة مختصرة وموجزة فيما سيفعله الناس معه مثلما كلام الرئيس الأمريكي معه عندما قال له أوبنهايمر” أشعر أن يدي ملطخة بالدماء” قال بثبات أن لا أحد يتذكر من صنعها بل من ألقاها وأنه هو من ألقاها!
إنها وجهات نظر مختلفة تتعلق بشكل آخر من الحياة خارج الفيزياء نفسها كعلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى