“واقعة جسر أوول كريك” أمبروس بيرس An Occurrence at Owl Creek Bridge by Ambrose Bierce

ترجمة: علي سالم

تدوين نيوز – خاص 

المترج : علي سالم

وقف رجل على جسر السكة الحديدية في آلاباما الشمالية، ناظراً الى ماء النهر السريع الذي كان يبعد عنه مسافة عشرون قدماً الى الأسفل. كانت يدا الرجل خلف ظهره، ومعصميه مقيدان بحبل. وكان ثمة أنشوطة تطوق عنقه بإحكام. كان حبل الأنشوطة مشدوداً الى خشبة قوية متصالبة مثبتة فوق رأسه، وكان الجزء المتبقي من الحبل يتدلى عند مستوى ركبتيه، وقد شكلت بعض الألواح الخشبية التي وضعت على عوارض السكة الحديدية لدعم معادنها منصةً وموطئًا لقدميه وأقدام جلاديه.. وهم جنديان من جنود الجيش الاتحادي ورقيب كان ربما يعمل نائبًا لشريف في حياته المدنية قبل أن ينضم الى الجيش. وكان ثمة رجلٌ آخر مسلحًا يرتدي بزةً عسكريًة بكامل رتبها يقف على مسافة قصيرة من الجنديين والرقيب. كان هذا الرجل المسلح ضابطًا برتبة نقيب. على مبعدة من هؤلاء الخمسة وقف حارسان مسلحان بالبنادق على طرفي الجسر قبالة الضفتين في الوضع المعروف باسم “الدعم”، أي وضع البندقية بشكل عمودي أمام الكتف الأيسر، وتركْ زندها يستقر على الساعد المنبسط عبر الصدر بشكل مستقيم.. كان هذا الوضع يبدو رسميًا وغير طبيعي، لأنه كان يجبرهما على الوقوف باستقامة كاملة، رغم إنهما لم يكونا معنيان بمعرفة ما الذي كان يجري في منتصف الجسر، لأن واجبهما كان يتلخص ببساطة في سد مخرجي المنصة التي كانت تعترض منتصف الجسر.

خلف أحد هذين الحارسين امتد الأفق بلا نهاية وانسابت السكة الحديدية بشكل مستقيم داخل أعماق الغابة القريبة لمسافة مئة ياردة قبل أن تنحرف وتغيب عن الأنظار. بالطبع كان ثمة مخفر للحراسة يقع عند النهايات الخفية للسكة. أما الضفة الأخرى للنهر فقد كانت عبارة عن أرض مفتوحة.. منحدر سلس من الأرض مغطى بسور من الجذوع العمودية، تطل من فتحات فيه فوهات البنادق، ومن خلال كوة وحيدة برز خطم معدني لمدفع نحاسي جعل الجسر تحت مرمى نيرانه. عند منتصف المسافة بين الجسر وهذا الحصن وقف المراقبون.. وهم كتيبة من المشاة في وضع ” الاستراحة”، أعقاب بنادقهم على الأرض، ومواسير بنادقهم تميل إلى الوراء قليلا تجاه الكتف الأيمن، والأيادي متصالبة على المقابض. على يمين خط السكة وقف ضابط برتبة ملازم، وطرف سيفه على الأرض، ويده اليسرى تستريح فوق يمناه.

كان الجميع يقفون بلا حراك، في انتظار ما ستفعله المجموعة المؤلفة من الجنديين والرقيب والنقيب وكان الحارسان، اللذان كانا يقفان قبالة ضفتي الجدول، يبدوان مثل تمثالين بشريين وُضعا هناك لتزيين الجسر. حافظ النقيب على وقفته بذراعين متصالبتين، صامتاً، ومراقباً الثلاثة الذين كانوا تحت إمرته بشكل مباشر، الجنديان والرقيب، لكن دون أن تبدر منه لهم أية إشارة. كان الجميع يعلمون أن الموت زائر جليل القدر ينبغي استقباله بكل آيات الاحترام والتبجيل عندما يحضر، حتى من قبل أولئك الذين قابلوه أكثر من مرة، وفي أخلاقيات السلوك العسكري يعتبر الصمت والتركيز شكلان من أشكال التبجيل والاحترام للزائر المهيب الذي كان على وشك الحضور.

بدا الرجل الذي كان على وشك أن يُنفذ بحقه حكم الإعدام شنقاً في الخامسة والثلاثين من العمر. كان مدنياً، قياساً لمهنته التي كان يمارسها قبل الحرب وهي الزراعة. كانت ملامحه وسيمة.. أنف مستقيم، فم صارم، جبهة عريضة، يرتد عنها شعره الأسود المرسل، ويتدلى خلف أذنيه حتى يلامس ياقة معطفه الفروك. كان الرجل يمتلك شارباً ولحية مدببة، لكن دون سبلة على الجانبين؛ عيناه كانتا كبيرتان وذات لون رمادي داكن، وعلى وجهه كان ثمة تعبير مسالم وحنون لا يمكن توقعه في وجه رجل رقبته ملفوفة بحبل المشنقة. من الواضح أن هذا الشخص لم يكن قاتلاً مبتذلاً. رغم ذلك تنص القوانين العسكرية الليبرالية على إعدام أنواع كثيرة من الناس، والمهذبون منهم ليسوا استثناءًا. تنحى الجنديان المكلفان بالتنفيذ جانبًا، بعد أن اكتملت جميع الإجراءات، وسحب كل منهما اللوح الخشبي الذي كان يقف عليه والتفت الرقيب الى النقيب، أدى له التحية ووضع نفسه تمامًا خلف ظهره، وخطى النقيب خطوة واحدة الى الوراء. تركت هذه الحركات الرجل المحكوم بالإعدام والرقيب واقفان على طرفي اللوح الخشبي نفسه، والذي كان يغطي ثلاثة من روابط السكة، وكان الطرف الذي وقف عليه المدني المدان تقريبا، وليس تمامًا، يلامس الرابطة الرابعة للسكة الحديدية.

كان هذا اللوح الخشبي الذي وضعوه هناك قد استقر في مكانه اعتمادًا على ثقل النقيب؛ والآن بعد أن تنحى النقيب جانبًا حل الرقيب محله. وفي إشارة من النقيب سيتنحى الرقيب، وسيميل اللوح الخشبي ويهبط الرجل المدان في الفجوة العازلة بين الدعامتين. لقد بدا هذا الترتيب بسيطاً وفعالاً بالنسبة للرجل المحكوم بالإعدام. لم يكن وجهه مغطى بشيء ولم يكن ثمة غشاوة على عينيه، وسمح له هذا الأمر بالنظر الى “موطئ قدميه المتقلقل”، ثم تحولت نظراته الى دوامات النهر الهادر المتدافعة بقوة تحت قدميه، ثم لفتت انتباهه قطعة خشب طافية فتابعها وهي تتخذ طريقها راقصة مع التيار. كم بدت له حركتها بطيئة، يا له من تيار كسول!

أغلق الرجل المدان عينيه وحاول أن يركز تفكيره في زوجته وأولاده، لكن الماء، يلامسه ذهب شمس الصباح الباكر، وسحب الضباب الكئيبة المتماوجة بين الضفتين تحت الجسر على مسافة ما أسفل التيار، ومشهد الحصن، والجنود، وقطعة الخشب الطافية.. كل ذلك شتت انتباهه. والآن أخذ يشعر بشيء آخر زاد من حدة انشداهه. وقد كان ذلك صوت ما اخترق نسيج أفكاره الحائمة حول أحبائه، صوت ما عجز عن تجاهله أو فهمه، أيقاع معدني، حاد، ومميز، مثل ضربة مطرقة على سندان. تساءل في دخيلته عن كنه هذا الصوت، لكنه لم يستطع أن يقرر إن كان يأتيه من مكان بعيد بعدًا سحيقًا أو من مكان قريب، لأنه بدا له بعيد وقريب في آن.

 شرع صوت الدقات يتكرر بشكل منتظم، لكنه كان بطيئاً مثل قرع ناقوس للموت جعل الرجل المحكوم بالإعدام ينتظر بفارغ الصبر كل دقة من دقاته، شاعرًا – دون أن يدري لماذا – بالخوف. لقد بدأت فواصل الصمت بين كل دقة وأخرى لذلك الصوت الغريب تزداد طولًا بالتدريج، وراوده شعور عميق بالسخط على هذا التأخير، ومع الندرة المتزايدة لتكرار الصوت أصبح وقع كل دقة منه على أذنيه أكثر حدة وقوة حيث بدأ يشعر به يؤذي أذنيه مثل نصل مرهف، وخشي أن يؤدي به ذلك الى الشروع بالصراخ. ولم يكن ذلك الصوت سوى دقات ساعته لا غير.

فتح عينيه وشاهد مرة أخرى تيار الماء الجاري تحته وفكر في دخيلته: ” لو كان بمقدوري تحرير يدي فسوف أتخلص من الأنشوطة واقفز الى النهر وأغوص فيه لكي أتفادى الرصاص، ثم أعوم بقوة، حتى أصل الى الضفة وأتخذ طريقي عبر الغابة لأصل الى بيتي. بيتي، أحمد الله أنه حتى الآن لايزال خارج سيطرتهم؛ زوجتي وأطفالي الصغار لا يزالون بعيدين عن اقصى نقطة وصلها هؤلاء الغزاة.”

عندما شرعت هذه الخواطر، التي لا مناص من تدوينها هنا على شكل كلمات، تومض في ذهن الرجل المحكوم بالإعدام دون أن يبذل جهدًا للتفكير بها، أشار النقيب برأسه الى الرقيب الذي تنحى جانبًا.

II
كان بيتن فاركوهار مزارعاً ناجحاً من عائلة آلابامية عريقة كانت تحظى باحترام الجميع. لكن لكونه كان مالكًا للعبيد فقد كان كبقية ملاك العبيد مهتمًا بالسياسة وكان طبيعيًا أن يكون من دعاة الانفصال الحقيقيين ومن المدافعين المتحمسين عن قضية الجنوب، لكن ظروفًا ملحّة، ليس من الضروري ذكرها الآن، كانت قد منعته من الخدمة في الجيش الباسل الذي خاض الحروب الكارثية التي انتهت بسقوط كورنث، الأمر الذي أورثه شعورًا شديدًا بالحنق لقعوده غير المجيد عن الاشتراك في الحرب التي كان يدفعه الى الانخراط في معمعانها شوق عارم لأنها في نظره كانت المكان الوحيد الذي يتجلى فيه معدن الرجال الحقيقي ومن خلاله كان بإمكانه تحقيق حلمه في التعرف على حياة الجندية المجيدة ونيل الفرصة لكي يحيا حياة متميزة. رغم ذلك كان يشعر بأن تلك الفرصة لم تضع من يديه الى الأبد وبأنها كانت آتية لامحالة، لأنها متاحة للجميع في زمن الحرب. وفي نفس الوقت كان يشعر بأنه قد فعل كل ما بوسعه لتحقيق ذلك الحلم ولم يفوت أي فرصة مهما كانت ضئيلة وشديدة التواضع بالنسبة له دون أن يستغلها في إنجاز شيء ما من أجل نصرة قضية الجنوب، دون أن يعير بالًا لأي مخاطر مهما كانت كبيرة في سبيل الاشتراك بالمجهود الحربي الذي كان يتماشى مع شخصيته المدنية التي يخفق بين جنباتها قلب مقاتل. وكان يؤمن بحسن نية ودون الكثير من المؤهلات بصحة جزء يسير على الأقل من مقولة لا يختلف اثنان على وضاعتها مفادها: “أن كل شيء مباح في الحب والحرب”.

لكن لو غادرنا الآن هذه اللحظة التي وجدنا فيها فاركوهار وعدنا معه الى ذلك المساء حين كان هو وزوجته يجلسان على مقعد في باحة منزلهما الريفي، لشاهدنا كيف دخل عليهما جندي ذا بدلة داكنة على صهوة جواد عبر بوابة منزلهما وطلب منهما شربة ماء. تحركت السيدة فاركوهار بسرعة، شاعرة بسعادة غامرة لأنها سوف تسقي الجندي العطشان بيديها البيضاوين. وبينما كانت مشغولة بجلب الماء اقترب زوجها من الفارس الرث واستفسر منه بلهفة عن أخبار الجبهة.

“يقوم الشماليون بإصلاح خطوط السكك الحديدية،” قال الرجل،” إنهم يستعدون لهجوم آخر. لقد الى وصلوا إلى جسر أؤول كريك، وأصلحوه وشيدوا حظيرة على الضفة الشمالية. لقد أصدر قائدهم أمرًا، نشروه في كل مكان، أعلن فيه أن أي مدني يُلقى القبض عليه وهو يحاول تخريب السكك الحديدية، أو الجسور، أو الأنفاق، أو القطارات يُعدم شنقًا دون محاكمة. لقد شاهدت ذلك بأم عيني.”

“كم يبعد جسر أؤول كريك؟ ” سال فاركوهار.

“ثلاثون ميلًا تقريبًا.”

“هل هناك قوة على الجانب الآخر من النهر؟”

“كلا، فقط موقع للحراسة على بعد نصف ميل، على السكة الحديدية، وحارس وحيد على هذا الطرف من الجسر.”

” لنفترض أن رجلًا.. مدنيًا.. لا يعير بالًا للشنق، استطاع أن يراوغ نقطة الحراسة، وتمكن ربما من الإجهاز على الحارس،” قال فاركوهار، مبتسمًا،” ما الذي سيتمكن من تحقيقه؟ “

فكر الجندي. “كنت هناك قبل شهر ولاحظت أن فيضان الشتاء الماضي قد كدس كمية كبيرة من جذوع الأشجار التي جرفها التيار نحو الرصيف الخشبي الكائن في نهاية الجسر. وهي الآن جافة تماماً، ويمكن أن تحترق كخيوط الكتان.”

كانت السيدة فاركوهار قد عادت بالماء الآن الى الجندي الذي شربه ثم شكرها بطريقة رسمية، وانحنى لزوجها وقاد جواده بعيدًا، مواصلًا سيره. بعد ساعة، وبعد حلول الظلام، مر ثانية بالقرب من المزرعة، متجهًا شمالًا في الاتجاه الذي جاء منه. لقد كان كشافاً اتحاديا.

III
عندما سقط بيتن فاركوهار بشكل مستقيم الى الأسفل عبر الجسر فقد وعيه، وبدا كما لو أنه كان ميتًا بالفعل. أفاقه من هذه الحالة.. بعد عصور طويلة، كما بدا له.. ألمٌ مبرح متولد من ضغط حاد على رقبته، تلاه شعور بالاختناق. وشعر بسكرات موت لاذعة وحادة بدت وكأنها كانت تنبعث من رقبته وتنطلق صوب كل نسيج من أنسجة جسده وأطرافه. بدت له هذه الآلام وكأنها كانت تومض على طول شبكة عريضة من التشعبات ذات الخطوط الواضحة المعالم التي كانت تنبض بتواتر سريع لا يصدق عبر جسده. لقد بدت له آلامه مثل تيارات لهب نابضة كانت تسخّن جسده الى درجات حرارية لا تطاق. لكنه لم يكن يشعر داخل راسه بشيء سوى إحساس غريب بالتخمة والاحتقان. تدفقت هذه الأحاسيس في جوانحه دون أن تصاحبها أي عملية من عمليات التفكير بعد أن انطمس لديه تمامًا ذلك الجزء من طبيعته العاقلة ولم يتبق في حوزته شيء غير قوة الإحساس والشعور، وكان ذلك الشعور عذاب محض. كان واعيًا بالحركة. محاطًا بسحابة مضيئة، لا يشعر منها بشيء غير قلبها الناري وكان هو نفسه، القلب اللاهب لتلك السحابة، لكن دون جوهر مادي، رغم انه شعر بنفسه يتأرجح مثل بندول ساعة عملاق عبر أقواس من التذبذب عصية على الخيال. ثم في الحال وعلى حين غرة، اندفع النور المحيط به الى الأعلى، مصحوباً بضوضاء طرطشة عالية وغمر أذنيه طنين مخيف، وشعر بالبرد والظلام يطوقانه من جميع الجوانب. وهنا استعاد قوة الفكر وعرف بأن الحبل قد انقطع، وبأنه قد سقط في النهر.

 لن يشنقوه مرة أخرى؛ لكن حبل المشنقة الملفوف حول رقبته كان يخنقه بالفعل ويمنع الماء من الوصول الى رئتيه. سيموت شنقًا في أسفل النهر…! بدت له الفكرة سخيفة. فتح عينيه في الظلام ورأى فوقه بصيص من نور، لكن كم كان بعيداً ذلك البصيص، وكم كان صعباً الوصول إليه! كان لايزال يغرق لأن بصيص النور الذي في الأعالي كان يبتعد ويصغر ويصبح أكثر خفوتًا حتى صار مجرد ومضة خافتة سرعان ما بدأت تنمو وتزداد سطوعًا، وهنا عرف أنه شرع يرتفع نحو السطح.. عرف ذلك على تردد منه، لأنه كان الآن يشعر بالارتياح الشديد. وأخذ يفكر: “ليس سيئًا للغاية أن تُشنق ويتم إغراقك، لكني لا أود أن تُطلق علي النار. لا، لن أسمح بذلك؛ هذا ليس عدلا.”

لم يكن واعياً بأنه بذل أي جهد، لكن ألمًا حادًا في معصمه أخبره بأنه كان يحاول تحرير يديه. ومنح لهذه المهمة جل انتباهه، رغم انه كان يلاحظ نفسه وهو يفعل ذلك كما يلاحظ مراقب كسول ألاعيب ساحر مشعوذ، دون اهتمام بالنتائج. ياله من جهد رائع…! يالها من عظمة، يالها من قوة خارقة! آه، لقد كان ذلك جهداً طيباً! برافو! لقد تخلص من القيد وترك الحبل يسقط بعيدًا عنه؛ افترقت ذراعيه وطفت نحو الأعلى، يداه تبدوان غائمتين في غبش النور المتزايد. أخذ يراقبهما باهتمام جديد عندما انقضّت واحدة منهما ثم الأخرى على الأنشوطة الملتفة حول عنقه. انتزعت اليدان الأنشوطة وألقت بها جانباً بقوة.. وراقب تموجات الأنشوطة التي كانت تشبه تموجات أفعى الماء. “أعيديها الى مكانها، أعيديها الى مكانها!” ظن انه صرخ بهذه الكلمات مخاطباً يديه، لأنه عندما فك خِناق الأنشوطة حول عنقه شعر بوخزة ألم مروعة لم يشهد لها مثيلًا في حياته. لقد اعترى رقبته وجع فظيع، واشتعل دماغه بنار الم مبرح، وقفز قلبه، الذي كان يدق دقات خافته، قفز من مكانه قفزة عظيمة، محاولاً الخروج عنوة من فتحة فمه. غطى الألم سائر جسده، واستشعرت خلاياه عذاب كرب لا يطاق! لكن يداه المتمردتان لم تكترثا للأمر وراحتا تشقان الماء بقوة وبضربات سريعة الى الأسفل، مجبرة إياه على الصعود إلى السطح. شعر برأسه يخرج وأعشى بصره نور الشمس الساطع؛ توسع صدره مرتعشًا، وبألم شديد لا مزيد عليه عبّت رئتيه أول دفقة من الهواء، زفرها على الفور على شكل صرخة مدوية!

استعاد الآن كامل السيطرة على حواسه التي كانت، في الواقع، متحفزة ويقظه بشكل خارق للعادة. لقد شحذ شيء ما في الاضطراب المروع لنظامه العضوي حواسه وصقلها ومنحها القدرة على تسجيل أشياء لم يكن يدرك وجودها من قبل. شعر بخفقان تموجات الماء على وجهه، وسمع صوت كل مويجة على حدة، وهي تضرب وجهه. تطلع الى الغابة الصاعدة من ضفة الجدول، ورأى الأشجار فرادى، واحدة واحدة، رأى الأوراق وتعرقات كل ورقة.. شاهد حتى الحشرات الزاحفة فوقها: الجراد، والذباب ذو الأجسام اللامعة، العناكب الرمادية وهي تنسج شباكها من غصين لغصين. لاحظ الألوان المنشورية في كل قطرة من قطرات الندى على مليون ورقة من أوراق العشب. سمع طنين البعوض المتراقص فوق دوامات التيار، ورفيف أجنحة ذبابة التنين، وضربات سيقان عناكب الماء، مثل مجاذيف قارب.. استقبلت أذنيه كل هذه الأصوات بوضوح موسيقي عذب. ثم انزلقت تحت ناظريه سمكة وسمع اندفاعة جسدها وهي تشق صفحة المياه عندما صعد إلى السطح ووجهه مع وجهة التيار. وفي لحظة بدا له العالم المرئي وكأنه كان يدور حول نفسه ببطء، وشعر بأنه هو نفسه كان النقطة المحورية لذلك الدروان، وشاهد الجسر، والحصن، والجنود الواقفين على الجسر، والنقيب، والرقيب، والجنديان، جلاديه. بدا له جلادوه مثل تفاصيل صورة ظليه مثبتة قبالة السماء الزرقاء. كانوا يهتفون ويحركون أياديهم، مشيرين له. كان النقيب قد سحب مسدسه، لكنه لم يطلق النار؛ الآخرون لم يكونوا مسلحين لكن حركاتهم كانت بشعة ومرعبة، بأشكالهم الضخمة.

فجأة سمع صوت دوي حاد صاحبه شيء ما ضرب سطح الماء بقوة على بعد بضع بوصات من رأسه، ناثراً على وجهه رذاذ الماء. سمع دوي ثانٍ، وشاهد واحدًا من الحراس مع بندقيته على كتفه، وسحابة خفيفة من الدخان الأزرق تنبعث من الفوهة. شاهد الرجل الموجود في النهر عين الرجل الواقف على الجسر تحدق في عينيه من خلال فتحة تسديد البندقية. لاحظ أنها كانت عين رمادية وتذكر انه قرأ بأن العيون الرمادية أشد مضاءًا من بقية العيون، وأن جميع الرماة الماهرين لهم عيون رمادية. ومع ذلك، عجز صاحب تينك العينين الرماديتين عن إصابة الهدف.

أمسكت دوامة معاكسة بفاركوهار وأدارته نصف دورة؛ ومن جديد وجد نفسه ينظر الى الغابة الموجودة على الضفة المقابلة للحصن. انبعث خلفه الآن صوت واضح وعال وذو رخامة رتيبة، وإنساب عبر المياه بوضوح مميز اخترق جميع الأصوات الأخرى وأخرسها، حتى صوت صفعات الأمواج في أذنيه. لم يكن فاركوهار جنديًا، رغم ذلك كان قد تردد في حياته على الكثير من المعسكرات ليعرف بما فيه الكفاية المغزى الرهيب لذلك النشيد المتأني البطيء الذي شرعت تستقبله أذناه؛ كان الملازم الواقف على الشاطئ يدير استعدادات الصباح. كم كان ذلك الملازم بارداً وبلا رحمة.. وبأي تجويد رتيب وهادئ كان يصدر ذلك النشيد، منذرًا، وفارضًا الهدوء على الرجال.. أي فواصل محسوبة بدقة كان يضعها بين تلك الكلمات الرهيبة:
” سرية، انتباه! تنكب سلاح! استعد! سدد! أطلق النار! “

غاص فاركوهار.. غاص الى أعمق ما يستطيع. هدر الماء في أذنيه هدير شلال، رغم ذلك سمع الدوي المكبوت لوابل الرصاص المنهمر، وعندما ارتفع مرة أخرى الى السطح، قابلته شظايا لامعة من المعدن، مسطحة بشكل فريد، تتأرجح هابطة ببطء نحو الأسفل. بعض منها لامس وجهه ويديه، ثم سقط بعيدا، مواصلًا هبوطه نحو الأعماق. علقت واحدة بين ياقته وعنقه؛ كانت ساخنة بشكل غير مريح فقام بانتزاعها من مكانها.

وعندما صعد الى السطح مرة أخرى، لاهث الأنفاس، لاحظ أنه أمضى وقتاً طويلاً تحت الماء؛ كان من الواضح أنه قد تحرك لمسافه ما أسفل التيار الى موقع أقرب الى السلامة. كان الجنود قد انتهوا تقريباً من إعادة حشو بنادقهم؛ مكابس البنادق المعدنية لمعت دفعة واحدة في ضوء الشمس عندما سُحبت من المواسير، وأُديرت في الهواء، وحُشرت في محاجرها. أطلق الحارسان النار ثانية، بشكل مستقل لكن دون تأثير.
شاهد الطريد ذلك كله من وراء كتفيه وهو يعوم الآن بقوة مع التيار. كان دماغه يشتعل بالحيوية كما ذراعيه وساقيه؛ كان يفكر بسرعة البرق.

فكر مع نفسه “لن يرتكب الضابط نفس الخطأ الصارم مرة ثانية. من السهل تفادي صليه من الرصاص بسهولة تفادي رصاصة واحدة. على الأرجح أنه أعطى الأوامر بإطلاق النار بشكل عشوائي. ساعدني يا رب على تفادي كل هذا الرصاص المنهمر! “

داهم النهر رشاش مروع من الرصاص ضمن نطاق ياردتين بعيداً عنه، أعقبه صوت متسارع، متضائل، بدا له أن صداه كان يترجّع عبر الهواء باتجاه الحصن وينتهي بانفجار هز النهر نفسه الى الأعماق!
تقوست على أثره فوق النهر ملاءة صاعدة من المياه، وسقطت عليه، أعمته، وخنقه! لقد اشترك المدفع في اللعبة إذن. وعندما هز رأسه ليخلصه من ضجة المياه التي تعرضت لقذيفة مدفعية سمع الطلقة الشائهة تئز في الهواء فوق رأسه، وفي لحظة كسرت وهشمت فروع الأشجار في الغابة خلفه.

” لن يفعلوا ذلك مرة أخرى”، فكر؛ ” في المرة القادمة سوف يستخدمون عبوة عنقودية. يجب أن أتابع المدفع؛ سيعلمني الدخان بذلك.. الدوي يصل متأخراً جداً؛ إنه يتلكأ خلف القذيفة. إنه مدفع جيد.”
فجأة شعر بنفسه يدور ويدور مثل دوامة.. واختلط أمام أنظاره الماء بضفاف النهر، بالغابة، بالجسر الذي بات بعيدا الآن، بالحصن بالرجال وغاب الجميع داخل صورة هلامية مشوشة. لم يعد يرى من الأشياء غير ألوانها فقط؛ مجرد خطوط لونية أفقية ودائرية.. ذلك كل ما كان بوسعه أن يراه. لقد أمسكت به دوامة، راحت تبرمه بسرعة دوران واندفاع شديدة الى الأمام حتى أصابته بالدوار والغثيان. وفي لحظات قليلة قذفته على الحصى عند سفح الضفة اليسرى للتيار.. الضفة الجنوبية.. وراء بقعة ناتئة من الأرض أخفته عن عيون أعدائه. التوقف المفاجئ لحركته، وكشط واحدة من يديه على الحصى، أعادا له وعيه، فجعل يبكي مسروراً. غرز أصابعه في الرمل، وأخذ يحثو قبضات منه على نفسه مباركاً إياها بصوت مسموع. بدت له حبات الرمل مثل الماس والياقوت والزمرد؛ بل أكثر.. لقد تمثلت له ككل شيء جميل أمكن لذاكرته أن تسعفه به. كانت أشجار الضفة نباتات حدائقية عملاقة؛ لاحظ وجود نسق واضح في ترتيبها، وعب بأنفه رائحة زهورها. نور وردي غريب أشرق عبر الفراغات الفاصلة بين جذوعها، وعزفت الريح بين فروعها ألحان قيثارات إيوليا.

لم يكن يرغب في إضفاء صفة الكمال على هروبه.. كان يرضيه أن يمكث في تلك البقعة الساحرة حتى يعيدوا إلقاء القبض عليه. أيقظه من حلمه أزيز وقعقعة ذخيرة عنقودية بين الأغصان المتدلية فوق راسه. المدفعي الحائر كان قد أطلق في أثره رشقة وداع عشوائية. نهض واقفاً على قدميه، واندفع صاعدًا منحدر الضفة، وغاص في أعماق الغابة.

واصل المسير طوال ذلك اليوم، مستدلاً بالشمس على وجهته. بدت له الغابة بلا نهاية؛ لم يكتشف أي قطع في امتدادها الأبدي، ولا حتى تلك الدروب التي يسلكها الحطابون. لم يكن يعرف من قبل أنه كان يعيش في برية لها مثل هذا الاتساع الأزلي. كان ثمة شيء غريب في هذا الاكتشاف.

وعندما حل الليل ألفى نفسه متعبًا، متقرح القدمين، جائعًا. لكن التفكير في زوجته وأولاده حثه على مواصلة التقدم. أخيرًا عثر على الطريق الذي قاده الى ما يسمى بالاتجاه الصحيح. كان الطريق واسعًا ومستقيمًا كشارع في مدينة، إلا أنه بدا غير مطروق من قبل. لا توجد هنا حقول تحده، ولامسكن على أي جنب من جنباته، ولا حتى نباح كلب على الأقل يشي بوجود بشر ساكنين على جانبيه. جذوع الأشجار السوداء وحدها شكلت جداراً مستقيماً على كلا الجانبين، منتهية في الأفق عند نقطة ما، مثل رسم تخطيطي في درس للمنظور. في الأعلى، عندما رفع بصره لينظر من خلال ذلك الصدع الموجود في سقف الغابة، شعت نجوم كبيرة بدت له غير مألوفة ومتجمعة داخل تشكيلات غريبة. كان متأكدا من أنها كانت مرتبة حسب نظام ما ذو مغزى خبيث وسري. وعلى الجانبين كانت الغابة حبلى بأصوات فريدة، تتخللها مرة تلو الأخرى وشوشات وهمسات منطوقة بلسان غير معروف. كانت رقبته تؤلمه وعندما رفع يده لتلمسها وجدها متورمة تورماً فظيعاً. كان يعرف أنها كانت محاطة بشريط أسود خلفته كدمات الأنشوطة عليها. شعر بعينيه محقنتان وبأنه لم يعد من الممكن إغلاقهما. كان لسانه متورما من العطش؛ وأخذ يخفف من سخونته بدفعه إلى الأمام من بين أسنانه ليلامس موجات الهواء الباردة. ما أشد نعومة التربة التي كانت تغطي ذلك السبيل غير المطروق.. لم يعد يشعر بالطريق تحت قدميه!

لا شك في أنه، رغم معاناته، قد استسلم للنوم أثناء سيره، لأنه يرى الآن مشهداً آخر.. أو ربما لأنه قد تعافى للتو من حالة هذيان. إنه يقف الآن على عتبه بوابة منزله. كان كل شيء كما تركه، مشرق وجميل في نور شمس الصباح الباهر. لابد أنه قد سار الليل بأكمله، وإذ يدفع البوابة ويسير فوق الممشى الأبيض العريض، يشاهد رفيف ثياب نسائية، ويلمح زوجته، التي تبدو طازجة ورائقة وحلوة، تهبط من الشرفة لمقابلته. في الجزء السفلي من درجات الشرفة تقف في الانتظار، مع ابتسامة فرح لا يوصف، وهيئة لا مثيل لها من الرشاقة والكبرياء. آه، ما أجملها! يقفز الآن الى الأمام مادًّا ذراعيه. وعندما يوشك على معانقتها يشعر بضربة صاعقة على الجزء الخلفي من عنقه؛ ضوء أبيض مُعشي يشتعل من حوله مقرونًا بصوت يشبه دوي مدفع.. ثم يغرق كل شيء في الظلام والصمت!

بيتن فاركوهار كان ميتاً؛ جسده المهشم العنق، كان يتأرجح برفق من جانب إلى جانب تحت الهيكل الخشبي لجسر أوول كريك.

نبذة عن الكاتب:

أمبروس غوينيث بيرس 1842- 1913، كاتب افتتاحيات أمريكي، صحفي وكاتب قصة قصيرة ومؤلف حكايات فنطازية. يعرفه القراء من خلال قصته الأشهر” واقعة جسر أؤول كريك ” التي نقدم ترجمتها هنا بالإضافة الى شهرته المقرونة بقاموسه الساخر الموسوم ب ” قاموس الشيطان “. أكسبته نظرته التهكمية للطبيعة البشرية التي أوحت له بكتابة أعماله بالإضافة الى ما عرف عنه من كونه ناقداً يتصف بالشدة، مستهديًا بشعاره الشخصي القائل ” لا شيء يهم ” الذي أكسبته لقب ” بيرس اللاذع “. يستخدم في أسلوبه القصصي البدايات المفاجئة، والصور المظلمة، الإشارات المقتضبة للزمن، الأوصاف المحدودة، ثيمة الحرب الأهلية الأمريكية، والأحداث المستحيلة.

في عام 1913، سافر بيرس الى المكسيك ليكون على تماس مباشر مع الثورة التي كانت مندلعة في ذلك البلد. وبينما كان مسافرا مع القوات المتمردة، اختفى هذا الكاتب العجوز دون أن يترك خلفه أثراً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى