فصل من رواية “الصبي اللامع” THE SHINING للكاتب الأمريكي ستيفن کنگ
ترجمة : علي سالم
تدوين نيوز – خاص
الفصل السادس
هواجس ليلية
لقد أنتهى الحب. زوجها ينام جنبها. زوجها. أبتسمت قليلًا في الظلام ، كان مائه مايزال يقطر من بين فخذيها المنفرجتان قليلًا، وكانت ابتسامتها تختلط بالأسى والفرحة معًا، لأن عبارة زوجها حشدت في رأسها شتى المشاعر، وكانت كلما تفحصت واحدًا من هذه المشاعر بدا لها لغزًا بحد ذاته. معًا، في هذا الظلام، وهما ينجرفان في تيار النوم، كانا مثل أغنية حزينة يحملها الليل من بار بعيد، مهجور، مفعمةُ بالأسى والبهجة.
حبك ياحبيبي يشبه السقوط من جذع مقطوع يتدحرج
لكني إن لم أك إمرأتك، فلن أكون كلبتك
هل هي من أغاني بيلي هوليداي؟ أم مطرب آخر أكثر إبتذالًا مثل پِيگي لي؟ لايهم. كان الصوت ينبعث خفيضًا ومتميزًا، وبدا في سكون الليل رخيمًا، وكأنه يخرج من أحد خزانات الجكبكس الموسيقية العتيقة، من نوع ورلتزر ربما، قبل نصف ساعة من الإغلاق.
الآن، راحت تتسائل، مبتعدة عن خواطرها، كم مرة نامت مع هذا الرجل الراقد جنبها. لقد تقابلا في الكلية ومارسا الحب أول مرة في شقته … وكان ذلك قبل أقل من ثلاثة أشهرعلى طرد أمها لها من البيت وإخبارها بعدم العودة ثانية، وإن كانت ترغب في الذهاب الى مكان ما، فلتذهب الى والدها، لأنها كانت السبب في طلاقهما. حدث ذلك عام 1970. ما أسرع مرور الوقت. بعد فصل دراسي واحد، إنتقلا للعيش سويةً، وراحا يعملان خلال موسم الصيف، وأحتفظا بالشقة لحين بدء عامهما الدراسي الأخير. كانت تتذكر ذلك السرير بوضوح كامل. كان سريرًا كبيرًا لشخصين وكان غائرًا من منتصفه. وعندما كانا يمارسان الحب فوقه، كانت نوابضه الصدئة تعد ورائهم عدد الهزات. في الخريف، كانت قد تحررت تمامًا من امها. وقد ساعدها جاك في ذلك. وكان جاك يقول لها : ” إن أمك تريد الأستمرار في ضربك. وكلما أكثرت من الأتصال بها، كلما كثر تذللك لها وطلبك للصفح منها، مما يجعلها تتمادى في ضربك أنت وأبوك. أنها تنتفع من ذلك، ياويندي، لأنها ستستمر في إيهام نفسها بأن الغلطة كانت غلطتك. لكنك لن تجنين شيئًا ذا نفع من ذلك ”
لقد ناقشا هذه المسألة عدة مرات من على نفس السرير، ذلك العام.
(كان جاك يجلس وقد دثّر نفسه بالغطاء حتى وسطه، وبين أنامله سجارة مشتعلة، ناظرًا الى عينيها – كان يفعل ذلك بطريقة نصف هزلية ونصف عابسة – وكان يقول لها :
لقد طلبتْ منك ألا تعودي أبدًا، أليس كذلك ؟ وألا تضعي قدميك على عتبة بابها أبدًا، أليس كذلك؟إذن لماذا لاتقفل الخط عندما تتصلين بها ؟ لماذا تقول لك فقط أنك لاتستطيعين العودة إذا كنت ماتزالين معي؟ السبب لأنها تعتقد إني سوف أُفسد خططها قليلًا. إنها تريد أن تعذبك، ياحبيبتي، وسوف تكونين حمقاء لو تركتيها تفعل ذلك، لقد طلبتْ منك أن لاتعودي أبدًا، فلماذا لاتأخذينها على محمل الجد؟ يجب أن ترتاحي. وأخيرًا بدأت ترى الأمور بالطريقة التي وصفها.)
لقد كانت فكرة الإنفصال المؤقت من اختراع جاك – حتى يتمكنا من رؤية علاقتهما بروية وموضوعية أكبر، كما قال جاك. كانت تخشى أن يكون مهتمًا بواحدة أخرى، لكنها أكتشفت لاحقًا أن الأمر لم يكن كما تتصور، فقد عادا الى بعضهما في الربيع، وسالها إن كانت قد ذهبت لرؤية أبوها. فجفلت وكأنه قرعها بسوط.
كيف عرفت ذلك؟
الظل يعرف.
هل كنت تتجسس علي؟
ثم أطلق ضحكته التي يطلقها عندما ينفذ صبره، والتي تجعلها تشعر بالإرتباك – كما لو كانت طفلة في الثامنة يستطيع رؤية دوافعها أكثر منها.
لقد كنت بحاجة الى الوقت ياويندي.
لأي شيء؟
أعتقد … لكي تقرري من أي أحد منا تريدين الزواج.
جاك، ماذا دهاك؟
أفكر بالزواج منكَ.
وكان الزواج. أبوها كان حاضرًا، أمها لم تحضر. لاضير، يمكن لها أن تعيش دون ذلك، شرط أن يكون جاك معها. ثم ولدت داني، إبنهما الجميل.
لقد كانت تلك السنة أفضل سنة في حياتها، وكان سرير نومها أفضل سرير نوم. بعد ولادة داني، دبر لها جاك وظيفة وهي كتابة أوراق الإمتحانات الموجزة، الأمتحانات الرئيسية، مخططات المناهج الدراسية، الملاحظات الدراسية، وقوائم الكتب المطلوبة على الآلة الكاتبة لنصف دزينة من أساتذة اللغة الأنكليزية. وأنتهى بها الأمر الى كتابة رواية لأحدهم على الآلة الكاتبة، وهي رواية لم تُطبع ، مما دعا جاك الى الإحساس بشكل وقح بنوع من الجذل الخفي. كان العمل جيدًا براتب أربعين دولارًا في الاسبوع، ثم أرتفع الأجر بسرعة الى ستين دولار خلال الشهرين اللذين قضتهما في طباعة الرواية الفاشلة. وأشتريا لنفسيهما أول سيارة، نوع بيوك، عمرها خمس سنوات وفيها مقعد للطفل في المنتصف. لقد كانا زوجان شابان، ذكيان، منطلقان الى الأعالي. أجبرها مجيء داني هي وأمها على الصلح، وكان صلحًا دائم التوتر وغير مريح أبدًا، الأ أنه كان صلح على أية حال. عندما كانت تأخذ داني الى بيت أهلها، كانت تذهب بدون جاك. ولم تكن تخبر جاك أن أمها كانت تغير دائمًا وضع حفاظات داني، وتقطب لرؤية خلطة الحليب التي كانت تعدها له، وكانت دائمًا تكتشف أولى العلامات الإتهامية لوجود الحساسية على مؤخرة الصبي أو في عورته. لم تكن أمها تتكلم عن أي شيء بصراحة، لكن الرسالة كانت تصل على أية حال: وكان الثمن الذي بدأت تدفعه ( وربما ستظل تدفعه على الدوام) لهذا الصلح هو إحساسها بأنها لم تكن تصلح كأم. تلك كانت طريقة أمها الخاصة في تعذيبها.
خلال الأيام التي كانت ويندي تمكث فيها في البيت وتقوم بأعمال المنزل، وتطعم داني زجاجات حليبه في المطبخ الغارق بنورالشمس في الشقة ذات الأربعة غرف المكونة من طابقين، كانت تستمع الى موسيقاها المفضلة على المسجل العتيق المحمول الذي كانت تملكه منذ أيام الأعدادية. كان جاك يعود الى البيت في الثالثة (أو الثانية أذا شعر انه يمكن له التملص من الحصة الأخيرة)، ويقودها، بينما يكون داني نائمًا، الى غرفة النوم حيث تزول عنها مشاعر الخوف وعدم الكفاءة.
وفي الليل عندما كانت تمارس الطباعة على الآلة الكاتبة، كان هو يكتب ويصحح الفروض. وفي تلك الأيام كانت تغادر غرفة النوم أحيانًا حيث الآلة الكاتبة، لتجدهما نائمين كلاهما على الأريكة. جاك بملابسه الداخلية فقط، وداني ينام وادعًا على صدر أبيه وقد وضع أبهامه في فمه. كانت تضع داني في مهده، ثم تقرأ ماكان جاك قد كتبه تلك الليلة قبل أن توقظه ليذهب الى السرير.
لقد كان أفضل سرير، وأفضل عام.
يومًا ما، ستشرق الشمس على باحتي
في تلك الأيام، كان جاك مايزال يعاقر الشراب. وكان يزورهم في ليالي السبت مجموعة من زملائه الطلبة حيث كانوا يحتسون البيرة ويدخلون في نقاشات لم تكن تشترك فيها لأنها كانت تدرس علم الأجتماع، وهو يدرس الانكليزية. كانت النقاشات تدورعما إذا كانت يوميات پيپس أدبًا أم تاريخ؛ ونقاشات حول شعر چارلز اولسن؛ وأحيانًا قراءات لأعمال لم تُطبع بعد، ومئات، بل آلاف من المواضيع الأخرى التي لم تكن تشعر بحاجة الى الإشتراك في النقاشات التي تدور حولها، وكانت فقط تكتفي بالجلوس في كرسيها الهزّازالى جانب جاك، الذي كان يجلس على الأرض واضعاً ساقًا على ساق، ممسكًا بالبيرة بيد، وباليد الأخرى مداعبًا ربلة ساقها، أو ممسدًا كاحلها.
كانت المنافسة في جامعة نيو هامبشر شديدة، وكان جاك يتجشم عناءًا زائدًا في كتابته، التي كان يكرس لها ساعة على الأقل كل ليلة. لقد كانت روتينًأ يوميًا، وكانت جلسات السبت علاجًا ضروريًا، إذ كانت تحرره من شيء كان يمكن أن يتجمع ليصل حد الأنفجار، وبعد تخرجه من الجامعة حصل على وظيفة التدريس في ستوفنگتن، بسبب جودة قصصه، على الأكثر، التي نشر أربعة منها في ذلك الحين، واحدة منها في دورية “أسكواير” الأدبية. كانت تتذكر ذلك اليوم بوضوح كامل؛ ولو شاء لها نسيانه، لأحتاجت لأكثر من ثلاث سنين ربما لكي يتم لها ذلك. لقد كادت ترمي بالمظروف، ظانّة أنه عرض اشتراك، وعندما فتحته، وجدت فيه رسالة تقول أن مجلة “أسكواير” ترغب في نشر قصة جاك المعنونة “حول الثقوب السوداء” في بداية العام القادم، وأنهم سيدفعون مبلغ تسعمائة دولار، ليس لنشرها، بل لمجرد الموافقة على ذلك. كان المبلغ يساوي عمل نصف عام تقريبًا من الطباعة على الآلة الكاتبة. وطارت الى التلفون، تاركة داني يبحلق بها من كرسيه العالي ووجهه مغطى بقشدة الكيك وصلصة اللحم.
كان جاك قد عاد من الجامعة بعد خمسة وأربعين دقيقة، وكانت البيوك تنتظر في الخارج مع سبعة من الأصدقاء وبرميل بيره. وبعد تناول بعض الكؤوس للأحتفال ( تناولت ويندي أيضًا كأسًا، رغم انها عاده لاتستذوق البيره)، ووقع جاك خطاب الموافقه، ووضعه في الظرف الجوابي، وخرج من البنايه ليضعه في صندوق البريد. عندما عاد توقف عند الباب وصاح بوقار “أتيت ورأيت وأنتصرت”. وأنطلقت صيحات تشجيع وتصفيق. وعندما نفذ البرميل في الحادية عشرة تلك الليله، خرج جاك وإثنان آخران ممن كانوا لايزالون قادرين على السير للبحث عن بعض الحانات.
كانت قد أنفردت به جانبًا في بهو الطابق الأسفل، وكان زميليه الأخرین قد خرجا وجلسا في السياره قبله، وهما يغنيان بصوت مخمورأغنية نيو هامپشر القتالية. كان جاك يركع على ركبة واحدة، محاولًا ربط حذائه بعيون لاتكاد ترى شيئاً.
– جاك ، قالت، لاتفعل. أنك غير قادر حتى على ربط حذائك، فكيف بقيادة السيارة.
نهض ووضع كفيه على بهدوء على كتفيها.
– الليلة أستطيع أن أطير الى القمر لو شئت.
– كلا . قالت، حتى ولو من أجل جميع قصص الأسكواير في العالم.
– سأعود الى البيت مبكرًا.
لكنه لم يعد الى البيت حتى الرابعة صباحًا، وصعد السلم مترنحًا ومدمدمًا، وأوقظ داني عندما دخل، وعندما حاول أن يهديء من روع الصغير، أفلته من يده ليسقط على الارض. كانت ويندي قد خرجت مندفعة، وهي تفكر ماالذي يمكن لأمها أن تقوله لو قدر لها رؤية الكدمة قبل أن تفكر بأي شيء آخر – ليساعدها الرب، ليساعدهما معًا، ثم التقطت داني، وجلست معه على الكرسي الهزاز، وهدئت من روعه. كانت تفكر بأمها طوال الخمسة ساعات التي قضاها جاك في الخارج، بنبوءة أمها التي كانت تقول بأن جاك لن يصلح لشيء أبدًا. أفكار كبيرة، كانت أمها قد ذكرت لها ذلك في يوم ما. بالتأكيد، لونظرت الى طوابير الرعاية الاجتماعية، لوجدتيها ملأى بالمثقفين الحمقى ذوي الأفكار الكبيرة. هل تثبت القصة التي نُشرت في مجلة أسكواير صحة نظرية أمها أذن، أم تدحظها ؟ وينفريد، أنت لاتحملين ذلك الطفل بصورة صحيحة. ناوليه لي. ألم تكن تحمل زوجها بصورة صحيحة ؟ لماذا إذن كان يبحث عن راحته خارج المنزل؟ كان ثمة نوع من الذعرالبائس قد أخذ يمور في دواخلها ولم يخطر لها أبدًا بأن خروجه من المنزل كان لأسباب لاعلاقة لها بها.
“تهانينا” قالت وهي تهز داني – الذي عاد للنوم ثانية تقريبًا – ربما تسببت له برجة في المخ،”
“إنها مجرد رضة بسيطة” قال حانقًا، وهو يرغب في الشعور بالتوبة: صبي صغير. وللحظة شعرت بكره شديد له.
“ربما كان ذلك صحيحًا، وربما لا.” قالت بصرامة. لقد سمعت في صوتها هي نفسه صوت أمها عندما كانت تتحدث عن أبيها الراحل بنفس الطريقة، مما جعلها تشعر بالغثيان والخوف.
“طالعة لأمك” تمتم جاك.
“أذهب الى السرير” صرخت في وجهه، وبدا لها خوفها وهي تطلق العنان له أشبه بنوبة غضب.
“أذهب الى السرير، أنت ثمل!”
“لاتقرري مايتعين علي فعله”
“جاك … أرجوك، لاينبغي لنا … انه …” لم يكن ثمة كلمات.
“لاتخبريني بمايجب أن افعل” أعاد قوله بحنق، ثم دخل الى غرفة النوم، وتُركت هي وحدها في الكرسي الهزاز مع داني، الذي عاد للنوم من جديد. وبعد خمس دقائق طفى في الهواء الخارج من غرفة النوم شخير جاك، وباتت هي ليلتها الاولى على الاريكة.
الآن كانت تتقلب في السرير دون نوم، رغم شعورها بالنعاس، وأنساب عقلها المتحرر من قبضة النوم الزاحف، وراء حدود السنة الأولى التي قضوها في ستوفنگتن، وراء حدود الظروف التي كانت تزداد سوءًا بإستمرار والتي وصلت الى أدنى مستوى لها من الجزرعندما كسر جاك ذراع داني، لتصل الى ذلك الصباح في ركن الافطار.
كان داني في الخارج، يلعب في الرمل بشاحناته، ويده ماتزال في الجبيرة، وكان جاك يجلس الى الطاولة، شاحبًا وغير حليق، وسيكارة ترتجف بين أصابعه، وكانت هي قد قررت أن تطلب منه الطلاق. لقد قلبت الأمر على مختلف الوجوه. لقد فكرت بالطلاق منذ ستة أشهر في الواقع، قبل حادثة ذراع داني، وقالت لنفسها بأنها كانت ستتخذ ذلك القرار منذ وقت طويل، لو لم يكن الأمر من أجل داني، لكن حتى ذلك الزعم لم يكن صادقًا بالضرورة. كانت تحلم في الليالي الطويلة عندما يكون جاك في الخارج، وكانت أحلامها تدور كلها عن وجة أمها وعن زواجها هي نفسه.
( من يُعطي هذه المرأة ؟ كان أبوها يقف مرتديًا أفضل مالديه من الثياب – كان يعمل بائعًا متجولًا لسلسلة من الأطعمة المعلبة التي كانت تعاني من الافلاس حتى في ذلك الحين – ولكن وجهه كان يبدو مرهقًا، كم كان يبدو عجوزًا، كم كان يبدو شاحبًا : نعم قبلت)
حتى بعد الحادث – لوسمينا ماحصل حادثًا – لم تجد نفسها قادرة على قول كل شيء، لم تجرؤ على الإعتراف بأن زواجها قد فشل فشلًا ذريعًا، وانتظرت، آملةً بغباء حدوث معجزة لجاك تجعله يرى مايحدث، ليس له فقط، بل لكلاهما معًا، لكن جاك لم يتوقف عن الشرب، وكان يشرب قبل الذهاب الى الأكاديمية، ثم ثلاثة أو أربعة كؤوس من الجعة عند الغداء في مطعم ستوفنگتن هاوس، بعد ذلك ثلاثة أو أربعة كؤوس من المارتيني قبل العشاء، وأخيرًا خمسة أو ستة كؤوس أخرى عند تصحيح الأوراق، وفي عطل نهاية الأسبوع كانت الأمور أكثر سوءًا، والأسوأ منها على الإطلاق هي تلك الليالي التي كان يقضيها في الخارج مع آل شوكلي. لم تكن تفهم كيف يمكن للحياة أن تحتوي على هذا القدر الكبير من الألم، في الوقت الذي تبدو فيه على خير مايرام من الخارج. لقد كانت تتألم طوال الوقت. كم من هذا الألم الذي كانت تشعر به كان بسببها هي؟ كان ذلك السؤال يعذبها، وكانت تشعر بأنها مثل أمها. مثل أبیها. وأحيانًا عندما كانت تشعر بذاتها الحقيقية كانت تتسائل كيف كانت ستشعر لو أحست بما كان يحسه داني، لقد كانت تخشى ذلك اليوم الذي سيكبر فيه كفاية ليفهم على من سينحي باللائمة، وكانت تتسائل أين سيذهبان حينها. لم يكن لديها أدنى شك في موافقة أمها على ايوائها، وعلى أنها بعد ستة أشهر من مراقبتها لأمها وهي تعيد وضع الحفاظات بالشكل الذي تراه هي صحيحًا، واعادة طبخ وجبات داني أو التخلص منها كليًا، أو لتجد عند عودتها الى المنزل بأن ثياب داني قد تغيرت، أو أن شعره قد قُص، أو لتجد بأن كتبه التي لاتراها أمها كتبًا مناسبة، قد أًخفيت في مكان ما في العلية … بعد ستة اشهر من ذلك، ستكون قد أًصيبت بانهيارعصبي كامل، ولقامت أمها بالتربيت على يدها مشجعة ومواسية لها، رغم ان الخطأ ليس خطئك، لكنه خطئك أنت بالذات. لم تكوني مستعدة. لقد كشفت عن وجهك الحقيقي، عندما وقفت بيني وبين أبيك.
أبي، أبو داني، أبي، أبوه.
( من يمنح هذه المراة ؟ أنا. لقد مات بالسكتة القلبية بعد ستة أشهر)
الليلة التي سبقت ذلك الصباح ظلت مستيقظة حتى مجيئه، وبعد تفكير طويل، توصلت الى قرار، وقالت لنفسها بأن الطلاق كان ضروريًا، ليس من أجل أمها وأبوها، ولا من أجل إحساسها بالذنب على فشل زواجها أو بسبب مشاعرها الخاصة بعدم الكفاءة، بل من أجل إبنها نفسه، ومن أجلها، إذا كان لها أن تنقذ أي شيء على الأطلاق من بلوغها المبكر، الكتابة التي كانت على الجدار كانت وحشية لكن واضحة، لقد كان زوجها سكيرًا، وسريع الغضب، ولم يعد من السهل عليه تمالك أعصابه وهو يشرب بهذا الافراط، ويكتب بهذه الرداءة، وسواء كان كْسر ذراع داني حدث بالصدفة، أو بشكل متعمد، فالأمر سيان بالنسبة لها، لأنه كان سيفقد عمله، إن لم يكن في هذا العام، ففي العام القادم. لقد لاحظت قبل الآن نظرات التعاطف تنبعث من عيون زوجات زملائه في الكلية، وقالت لنفسها بأنها قد تورطت بفوضى زواجها لأقصى حد ممكن، والآن عليها الخروج من هذه الورطة، ويمكن لجاك أن يحظى بحقوق زيارة كاملة، وسوف تطلب منه حق الإعالة لحين تمكنها من الحصول على عمل والوقوف على قدميها – وهذا الأمر يجب أن يتم بسرعة لأنها لم تكن تعرف الى متى سيكون جاك قادرًا على أعالتهما. ستفعل ذلك بأقل قدر من المرارة، لكن يجب أن تضع حدًا لهذا الزواج.
وهي تفكر على هذا النحو، كانت قد استسلمت الى نومها الخفيف والقلِق، وانتابها وجه أبيها وأمها. لستِ سوى مدمرة للبيوت، قالت لها أمها. من يُعطي هذه المرأة ؟ قال الكاهن. لكن في الصباح المشمس الرائق كانت تشعر بنفس الشعور، ظهرها له، ويداها مغموستان حتى الرسغين في ماء غسل الصحون الدافيء، وكانت قد أستهلّت يومها بالكدر.
“أود التحدث اليك عن شيء قد يكون فيه صالح داني وصالحي، وصالحك أنت ايضًا، ربما. كان ينبغي علينا التحدث في الموضوع من قبل، كما أعتقد”
ثم سمعته يقول شيئًا غريبًا. كانت قد توقعته أن ينفجر غاضبًا، وأن يقوم بالتنفیس عن حقده علیها وتجريمه لها. كانت قد توقعت أن يهرع الى خزانة الشراب. لكنها لم تتوقع أبدًا تلك الاجابة الرقيقة، التي تكاد تخلو من من كل نبرة أو روح بشكل لاينطبق عليه تمامًا. وبدا لها تقريبًا بأن جاك الذي عاشت معه لست سنين لم يعد الى البيت تلك الليلة – كما لو أنه قد أًستعيض عنه ببديل ليس من هذا العالم، بديل لاتعرفه وليست متأكدة منه.
“هل يمكن ان تفعلين شيئًا من أجلي ؟ منّة ؟”
“ماذا ؟” كان عليها السيطرة على صوتها بقوة حتى لايرتجف.
“دعينا نتحدث عن هذا الأمر بعد أسبوع، اذا كنت ماتزالين مصرة على ذلك”
ووافقت، وظل الموضوع مقفلًا بينهما. وخلال ذلك الأسبوع كان قد قابل آل شوكلي أكثر من المعتاد، لكنه كان يعود مبكرًا الى البيت ولم يكن ثمة رائحة للكحول في أنفاسه. وكانت تتخيل بأنها تشمها، لكنها كانت تعرف أن الامر ليس كذلك. ومر أسبوع، ثم آخر.
وتراجع مشروع الطلاق الى اللجنة، دون تصويت.
ماذا حدث؟ كانت ماتزال تتساءل ورغم ذلك لم تصل الى نتيجة، وكان الموضوع ” تابوًا” بينهما. وكان مثله مثل رجل أطل برأسه من وراء زاوية ليرى على غير توقع وحشًا في الانتظار، مقرفصًا وسط العظام المتيبسة لضحاياه السابقين، وظل المشروب في الخزانة، لكنه لم يمسسه. وفكرت ألف مرة بالتخلص منه، لكنها كانت دومًا تتراجع عن تنفيذ هذه الفكرة، كما لو أنها كانت تخشى أن تكسر تاثير سحر غامض من نوع ما لو نفذت ذلك الفعل.
وكان عليها التفكير بدور داني في هذه المعادلة.
لوكانت تشعر بأنها لم تكن تعرف زوجها، فانها كانت ستشعر بالرهبة من ابنها – رهبة بمعنى الكلمة : نوع من الخوف الخرافي غير المحدد.
وهي تستسلم للنوم بهدوء، قُدمتْ لها صورة من لحظة ولادته. كانت تتمدد ثانية على طاولة الولادة غارقة في العرق، وشعرها خصل مبتلة، وساقاها منفرجتان على الركائب.
(وكانت تشعر بنشوة خفيفة من أثر الغاز الذي لم ينقطعوا عن زقها بنفحات منه؛ وفي إحدى المرات كانت قد ذكرت بأنها كانت تشعر وكأنها اعلان لاغتصاب جماعي، ووجدت الممرضة الشبيهه بطائر عجوز، والتي ساهمت في توليد مايكفي من الأطفال لإعمار مدرسة ثانوية، بأن ملاحظتها كانت مسلية)
الطبيب بين ساقيها، والممرضة متنحية جانبًا، تعد الأجهزة وتدندن. لقد كان الألم الحاد، الكامد يتدفق على شكل وصلات حادة منتظمة، وكانت قد صرخت عدة مرات بالرغم من شعورها بالعار.
ثم قال لها الطبيب بصرامة شديدة بأن عليها أن تدفع، وفعلت، ثم شعرت بشيء يُستل منها. لقد كان شعوراً واضحًا ومحددًا، شعورًأ لم يكن بوسعها نسيانه – لقد أُخرج الشيء. ثم رفع الطبيب ابنها عاليًا من ساقيه – وكانت قد رأت عضوه وعرفت أنه صبي في الحال – وعندما كان الطبيب يفتش عن قناع التنفس، كانت قد رأت شيئًا آخر، شيء رهيب جدًا منحها قوة جديدة للصراخ ثانية بعدما ظنت أن جميع صرخاتها قد جفت : لقد كان بلا وجه!
لكن بالطبع كان هناك وجه، وجه داني الحلو الجميل، والبرقع الذي كان يغطي وجهه عند الولادة قد استقرالآن في جرة صغيرة كانت قد احتفظت بها، بشيء من الإحساس بالعار تقريبًا. لم تكن تؤمن بالخرافات القديمة، لكنها احتفظت بالبرقع الولادي مع ذلك. لم تكن تؤمن بما تتداوله الزوجات من حكايات، لكن الصبي لم يكن عاديًا منذ البداية. لم تكن تؤمن بالرؤية الثانية لكن-
هل تعرض أبوك لحادث ؟ حلمت بأن أبي قد تعرض لحادث.
شيء ما كان قد غيّره. لم تكن تؤمن بأن استعدادها لطلب الطلاق هو الذي غيّره. شيء ما كان قد حدث قبل ذلك الصباح. شيء ما كان قد حدث، بينما كانت هي تنام قلقة. لقد قال آل شوكلي لم يحدث شيء، لاشيء على الاطلاق، لكنه كان قد حول بصره الى جانب عندما قال ذلك، ولو كنت تؤمنين باشاعات الكلية، لصدقت بأن آل قد امتطى تلك العربة الاسطورية.
هل تعرض ابي لحادث ؟
ربما كان ثمة اصطدام طارئ بالقدر، لاشيء أكثر صلابة من ذلك بالتأكيد. كانت قد قرأت صحيفة ذلك اليوم واليوم التالي بعين أكثر تفحصًا من المعتاد، لكنها لم تر شيئًا يمكنها أن تربطه بجاك. ليكن الله في عونها، لقد كانت تبحث عن حادثة دهس وهروب، أو شجار في حانة أدى الى جروح خطيرة أو … من يعلم ؟ من يرغب بذلك ؟ لكن لم يأتي أحد من الشرطة، أما للسؤال أو بمذكرة تسمح له بأخذ قشور من الطلاء من واقيات الفولكسواگن. لاشيء من ذلك. لاشيء سوى تغيرزوجها مئة وثمانون درجة وسؤال ابنها الناعس عندما استيقظ : هل تعرض أبي لحادث ؟ لقد حلمت …
لقد غاصت في الوحل مع جاك من أجل داني، غاصت أكثر من قدرتها على الإعتراف بذلك لنفسها في ساعات يقظتها، لكن الآن، وهي تستسلم لنومها الخفيف، كان بامكانها الأعتراف بذلك : لقد كان داني ابن أبيه منذ البداية، كما كانت هي بنت أبيها منذ البداية تقريبًا. لم يكن بمقدورها أن تتذكر أن قام داني ببصق الحليب من زجاجة الرضاعة على قميص جاك أبدًا. كان بمقدور جاك حمله على تناول الطعام بعد أن تكون هي قد يأست من ذلك بقرف، حتى عندما بدأت أسنان داني بالظهور، وكانت تؤلمه بشكل واضح عند الأكل. وعندما كان داني يعاني من المغص، كانت تقوم بهزه لمدة ساعة قبل أن يهدأ، ولم يكن على جاك سوى أن يلتقطه، ويسير به مرتين داخل الغرفة، لينام على كتفه، وابهامه مستقر باطمئنان داخل فمه.
لم يكن يعترض على تغيير الحفاظات، حتى تلك التي كان يسميها بالتوصيلات الخاصة. كان يجلس مع داني لساعات طويلة، يرقصّه في حجره، ويلعب معه لعبة الأصابع، ويكشر له، وداني يدس أصابعه في أنفه ثم ينهار في ضحكة مجلجلة. كان يقوم بتحضير الأغذية البديلة ويطعمها له دون خطأ، ويساعده فيما بعد على إخراج آخر تجشوء من معدته. كان ياخذ داني معه في السيارة لجلب الصحيفة أو زجاجة حليب أو المسامير من حانوت الخردوات حتى عندما كان طفلهما مايزال صغيرًا جدًا. وكان قد اصطحب داني الى مباراة كرة القدم بين ستوفنگتن وكين عندما كان عمر داني ستة شهور فقط، حيث جلس داني في حجر أبيه دون حراك طوال المباراة، ملفوفًا ببطانية، وفي إحدى يديه البضتين كان يمسك بعلم صغير من أعلام ستوفنگتن.
كان يحب أمه، لكنه كان ابن أبيه.
أو لم تكن قد شعرت، مرة تلو الاخرى، بمعارضة ابنها الصامتة لفكرة الطلاق برمتها؟ كانت تفكر فيها في المطبخ، مقلبة اياها في ذهنها وهي تقلب البطاطس للعشاء في يدها لتقوم بتقشيرها. وكانت تلتفت لتراه يجلس متصالب الساقين على كرسي المطبخ، ناظرًا اليها بعينين بدتا معًا خائفتين ومليئتين بالاتهام، وعندما سارت معه الى المنتزة، كان يمسك فجاة بكلتا يديها ويقول– بل يطلب تقريبًا: ” هل تحبيني؟ هل تحبين أبي؟”
وكانت تقول أو تهز رأسها بحيرة ” بالطبع، نعم، ياحبيبي”
ثم كان يركض نحو بحيرة الوز، ويجعلهن يصحن ويهربن فزعات الى الجانب الآخر، مرفرفات بأجنحتهن في هروب جماعي خوفًا من ضراوة هجومة الصغير، تاركًا أمه وهي تحدق فيه وتتسائل.
وكان ثمة أوقات كانت تجد فيها عزمها على مجرد مناقشة الموضوع مع جاك يذوب ويتلاشى، ليس بسبب ضعفها، لكن خضوعًا لإرادة إبنها التي لاتقهر.
لا أؤمن بمثل هذه الأمور.
لكن عند النوم كانت تؤمن بها، وكانت تنام، وبذور زوجها ماتزال تجف بين فخذيها، وكانت تشعر بأن ثلاثتهما قد التحما معًا الى الأبد – يعني لو قدر لثالوث واحديتهم أن يُدمّر، فلن يتم ذلك على يد واحد منهم، بل سيتم من الخارج فقط.
معظم ماكانت تؤمن به كان يدور حول حبها لجاك. لم تكن قد توقفت عن حبه، ماعدا ربما في تلك الفترة التي تلت مباشرة “حادثة” داني. وكانت تحب ابنها. والأكثر من ذلك كانت تحبهما معًا، سائرين، أو راكبين، أو جالسين فقط. كان رأس جاك الكبير يلامس رأس داني الصغير فوق الصفحة الهزلية، التي كانا يتابعان باهتمام صورها المضحكة، ويتشاركان بقنينة كولا. كانت تحب أن يكون كلاهما معها، وكانت تأمل من الرب الرحيم بأن تكون وظيفة الحراسة التي دبرها آل لجاك بداية العودة الى الأزمان السعيدة الخالية.
وهبت الريح عاليًة، ياحبيبي،
وطارت بأحزاني بعيدًا …
ناعمة وحلوة ولينة، عادت الأغنية ومكثت، وتبعتها في أغوار النوم العميقة التي تتوقف فيها الأفكار وتتلاشى فيها الوجوه التي تأتي في الأحلام بلا ذكرى.