“لا أحد يقرأ لأحد” مقال حول غياب القارئ للكاتبة والصحفية المغربية منى وفيق

تدوين نيوز – خاص
—- الكاتب : حــــــــاضـــــــــر
—- القارئ : غــــــــائــــــــــب
أتخيّل الكاتب والقارئ يردّان هكذا على نداء الأدب .
لسنا نختلف في كون الشّعوب العربيّة شعوبا مرهقة وشعوبا لا تقرأ في المجمل إلاّ أنّ وجود نصّ يفترض بالضّرورة وجود قارئ .لكنّ غياب القارئ، هو في حدّ ذاته واقع أغرب ما فيه هو كونه واقعا مسلّما به و مرضيّا عنه .
ظاهرة غياب القارئ هي أكثر الظواهر بروزاً في العالم العربي ، فالنّصوص والإنتاجات الأدبيّة والفكريّة المطبوعة تجد نفسها رهينة الرّفوف غير مرغوب فيها وغير قابلة للإقتناء، عربيّاً بالتّحديد، عكس ما يحدث في باقي بلدان المعمور بنسب متفاوتة.
إنّ ظهور طائفة من الكتّاب والأدباء تحديداً في فترة من الفترات، يبشّرون بأدب طلائعيّ – أحدث قطيعة مع ما مضى – ويميلون لكتابة أدب راكد لا يصل إلى المتلقّي أفرز مجموعات أو “شِللاً و مافيات أدبية”مغلقة وكتّابا يكتبون لبعضهم ويقرأون لبعضهم فقط بداعي المجاملة – هذا إن قرأوا فعلا – ويروّجون لبعضهم دفاعا عن مصالح مشتركة، وهي نصوص لا تعترف بسلطة الزّمن وتدعو إلى الهدم دون التّفكير في البناء وترفع شعار الحداثة دون أن تعي شروطها، بل خلّف لنا أيضا في النهاية حركة أدبيّة تدور في حلقة مفرغة و تقف على أرض مهشّمة تظن أنها تجري من منطق مسايرة الرّكب لكنّها لا تقدّم أيّ بدائل حقيقة تجعلها تخطو بخطى ثابتة، إنها دائرة تكرّر نفسها محافظةً على نفس الحجم بصورة مشوهة.
هذه النّصوص الراكدة التي سدّت شهيّة القارئ عن القراءة وجعلته يرمي بالكتاب بعيدا و يفكّر في كلّ شيء ماعدا ارتكاب فعل القراءة. كتابةٌ متبلدة نفّرت القارئ وجعلت الكتّاب أنفسهم يشكّلون خطرا على الإبداع وجعلت الحراك الأدبي متعاليا .هذا خطير بالتّأكيد ، لكنّ الأخطر من غياب القارئ البسيط وغياب القارئ المثقّف النخبوي أو المهتمّ هو فعل قراءة الكتّاب لبعضهم قراءة سطحيّة دون تفحّصٍ لماهيّة النّص ولا استيعابٍ لمضمونه. ومن ثمّة الادّعاء المفضوح بالقراءة لبعضهم – مجاملة لا أكثر وعلى الأغلب – ، ولكي يُأمِّنوا طبعا لبعضهم بعضا دخلاً قارا من خلال الصّفحات الثّقافية التي يشرفون عليها، فيخرج علينا”مثقّف مُراءٍ” يحكم على النّصوص بمجرّد الاحتكام إلى أسماء كتّابها ممّا ضيّع فرص الكثير من الموهوبين من أدباء شباب في الوصول إلى القرّاء المعدودين المتبقّين، ومن الطبيعيّ أن يحطّم هذا نوعا مّا طموح الكتّاب في بداية تكوينهم الابداعيّ.
إنّ الكتّاب الذين يدّعون أنّهم يقرأون لبعضهم ، يتّجهون لنقد أعمال بعضهم البعض بشكل ضعيف وانطباعيّ وسطحيّ ، فتجدهم يستعلمون نفس المعجم العريض المبالغ فيه من قبيل ” المنجز الإبداعي ، مساءلة الذات والحداثة ، تحقيق الطفرة الإبداعية ، المآل الدراميّ والغنائيّ اللذان يوجّهان مقصديّة الإبداع ، نحت استثائيّ ، الذات المتشظّية ، الكتابة تدمير …” وغيرها من المقولات المسكوكة التي يحفظها الناقد المبدع ويمارسها على أعمال معيّنة ثم يعمل دائما على استعادتها كلّما احتاج أن يملأ أحد الأحبّة بالهواء في حين يظلّ النّص محكوما بالغياب والتّأجيل… ونقد الصّيغة لا يستند لأيّ مرجعيّة ولا تصوّر ولا يقيم تماثلا أو تقاطعا مع النّص الإبداعيّ ، بل هو نقد خارجيّ يكتفي فقط بتصفّح العمل واستدعاء المعجم المرصوص، نقدٌ لا يواكِب بالتّقييم والتّقويم وتمييز الرّديء عن الحسن انطلاقا من تصوّرات جماليّة محدّدة ، نقدٌ لا يكفّ عن الصّراخ و لا ينصت للنّص والكون الجماليّ الذي يعتمل داخله.
السّؤال هو كيف يمكن الارتقاء بذوق القارئ ؟
عندما تصبح القراءة جزءا من المعيش اليوميّ؟؟؟
أجل . غير أنّ هذا لن يتمّ إلا إذا أعدنا التّفكير في سياستنا الثّقافيّة ومشاريعنا التدريسيّة وتجاوزنا الهاجس الأمنيّ الذي جعل الثّقافة مكبّلة لا يمكنها أن تسير إلى الأمام وعوّضنا المقاربة الأمنيّة بمقاربة جماليّة تُنمّي الذّوق وتغذّي المَلكات ورفعنا الرّقابة عن الإبداع والكتابة.
هذا الفعل لا يمكن أن ينجح على المدى القريب وهو يحتاج إلى مساحات زمنيّة مفتوحة حتّى يعود للإبداع مكانته التي ميّزته. ونحن نذكر مثلا كيف كانت القصيدة الجاهليّة تحتلّ البيوت والحارات والأسواق، كانت القصيدةُ هي الحياة وهي القناة الإعلاميّة ..و لكي نستعيد مثل هذه الطّقوس اليوم لا بدّ من المعاناة لنصل في المحصّلة إلى قارئ متذوّق يتعرّف على مواطن الجمال ومواطن القبح ويعمل على استصدار موقف تجاه ما يقرأ. وجميعنا يعرف قصّة امرئ القيس وعلقمة وكيف أن زوجة امرئ القيس انتصرت لعلقمة الفحل فذاك درس مهمّ لـ”النّاقد الصّيغة”.
لا حلّ سوى الارتقاء بذوق القارئ واستعادة اهتمامه، وذلك من خلال المعارض التي تُعرض فيها الكتب بشكل دائم، وبأسعار مخفّضة، والعودة للاحتكام للقارئ كمحكّم فعليّ ومقيّم حقيقيّ لمستوى الكتب، وهو سيكون مقيّماً جيّداً فعلاً رغم كلّ ما يعانيه على كافّة المستويات الفكريّة وبالرّغم من تدنّي مستواه الثّقافي، فبالقراءة نفسها يتم ّالارتقاء بهذا المستوى الثّقافي، والقارئ قادر مع الوقت على التّقييم الجيّد للأدب، فالفنّ والإبداع عموماً من النّاس وللنّاس وإلى النّاس، مهما كان عظيما وثقيلاً .
علينا أن نعترف بكون المواقع الإلكترونيّة هي الأخرى – على فاعليّتها وأهمّيّتها – أسهمت في دعم الأدب المنافق و الكتابات المنافقة والآراء المنافقة حيث جعلت الكتّاب يمرّون على النّصوص مرور الكرام . المواقع الإلكترونيّة التي برز بفضلها جيل كبير من الشّباب الذي لم يجد منابر ينشر فيها إمّا لضعف كتاباته أو لعدم وجود تدخّلات حزبيّة و… وغيرها من العلاقات المشبوهة التي أسّستها المنابر الرسميّة وغير الرّسميّة غير أنّ هذه الثّورة الإلكترونيّة أسهمت بشكل كبير في تمييع الكتابة فيما يسمّى بالكتّاب المنتشرين الذين يحتلّون جميع المواقع سواء الثّقافيّة أو السياسيّة أو الصّفحات الشّخصيّة أو تلك التي تهتمّ بالإشهار حتّى إذا وضعت اسم أحدهم في محرّك البحث تخالك أمام علم كبير في الكتابة.
لقد أسهم الإنترنت فعلا في الإجهاز على القارئ بل جعلته أكثر خمولا ممّا كان عليه ولا أدلّ على ذلك من التّعليقات المجّانيّة على النّص والتي تزمّر وتطبّل للكاتب بل إنّ الكثير من الكتّاب يلجأون إلى اختراع أسماء وهميّة وتدبيج كلمات رنّانة في حقّ أنفسهم، فإذا لم يعترف الآخرون بهم فلماذا لا يعترفون بأنفسهم ؟!!!
ليس ثمّة فعلا أطرف من أن يكتب الكاتب نصّه ثمّ يقرأه وينتقده ويعلّق عليه بنفسه ويصير هكذا منتجا ومتلقيا في آن..!!
ولست أنسى الإشارة إلى أشهر المواقع الإلكترونية عالميّا موقع ” الفيس بوك” والذي عوّدنا ككتّاب وقرّاء على استسهال فعل القراءة وعلى الضّغط على أيقونة “like” دون الحاجة إلى إثبات قراءتنا وتفاعلنا مع النّصوص.
عالمنا العربيّ يعيش حركيّة أدبيّة وفكريّة قويّة وتيّارات جديدة ، ولنقل إن هذه الحركيّة تطوّرت بشكل سريع في التّاريخ ممّا جعل المراحل الجماليّة تتداخل ، وفي حالة تستدعي أن نقف عندها ، لكن في المتمّ يختار المبدع شكلا يستجيب لحالاته النّفسيّة ولامتداده في مجموعته.لكن ما نحن في حاجة إليه أكثر من أي شيء آخر حتّى تكون هذه الفاعليّة في الإنتاج ذات جدوى هو الرقيّ بذوق القارئ كما أسلفنا الذّكر وذوق القارئ لن يرقى إلّا بوجود نيّة حقيقيّة عند القارئ نفسه وعند الكاتب والمسؤولين عن الميديا إلى آخر القائمة التي تطول ..
نعم .. نعم .. الكلّ يكتب .
ونعم .. نعم .. نعم .. لا أحد يقرأ لأحد.